صلاح حافظ.. انتفاضة بقلم "بقايا إنسان"

صلاح حافظ.. انتفاضة بقلم "بقايا إنسان"


01/01/2020

ظلّ محمد صلاح الدين حافظ، المعروف بالصحافة العربية بصلاح حافظ، يذكر لأصدقائه أنّ صلاح هذا الذي أمامكم بعد السجن قد صار بقايا إنسان، لكن المذهل أنّه من بين هذه "البقايا" ظل الصحفي يكتب ويبدع ويصدر الصحف بطاقة نادرة عجيبة حتى آخر أيامه.

انتمى حافظ للجيل الذي حمل أحلام الحركة الوطنية في التحرر من الاستعمار وتحقيق الثورة الاجتماعية

لم يكن يتخيل الأب صلاح الدين أنّ ابنه محمد سيعصي أمره هاجراً دراسة الطب إلى بلاط "صاحبة الجلالة"، وأنّه سينخرط في العمل السياسي ليصبح كادراً شيوعياً في حركة "حدتو" اليسارية، ويتم اعتقاله عدة سنوات، قبل أن يستأنف عمله بالصحافة ليصعد نجمه في بلاطها المزدحم حينها بالنجوم.
ولد محمد صلاح الدين حافظ  الملقب بـ "أسطى الصحافة المصرية" و"أستاذ الجيل الحالي من الصحفيين الكبار"، في السابع والعشرين من تشرين الأول (أكتوبر) العام 1925 في محافظة الفيوم لأسرة عريقة مهتمة بالثقافة والتعليم، انتمى حافظ للجيل الذي حمل أحلام الحركة الوطنية في التحرر من الاستعمار، وتحقيق مهام الثورة الاجتماعية على أوضاع طبقية شديدة التناقض؛ لذا لم يكن غريباً أن ينضم الفتى لحركة حدتو (الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني) وكان اسمه الحركي "دبوس".

حصل صلاح حافظ على التوجيهية، ثم التحق بكلية الطب بعد إلحاح من الأب
حصل صلاح حافظ على التوجيهية، ثم التحق بكلية الطب بعد إلحاح من الأب؛ فالطبيب في المناطق الفقيرة يمنح الحياة لآلاف المرضى، بدأ صراع ضارٍ يدب في قلب صلاح حافظ بين السياسة والطب والأدب الذي يستهويه؛ فتعلق بكتابة القصة القصيرة، وفي الكلية تعرف على زميله وقتها "يوسف إدريس" والطالب "مصطفى محمود"؛ لتنفجر الموهبة وسط صراع بين الابن وأبيه حتى يحقق التفوق المرغوب والمأمول، والابن يصارع غير مقتنع وفي النهاية استسلم، حصل الأب على وعد من الابن بالتخرج من الكلية، على أن يصبح حراً في اختيار مستقبله بعد ذلك.

لم يتخيل الأب أن ابنه محمد سيعصي أمره هاجراً دراسة الطب إلى بلاط مهنة المتاعب

تألقت الموهبة وتبلورت واستحال على الفتى أن يسيطر عليها، خاصة بعد فوزه بجائزة الشعر من وزارة المعارف، كتب حينها مجموعة من القصص، وذهب بها إلى جريدة "المسائية" وقابل "كامل الشناوي" رئيس تحريرها الذي اختار "حسن فؤاد" سكرتير تحرير الجريدة أن يقابله؛ إذ كان الشناوي وقتها منشغلاً بحلاقة ذقنه، يقول فؤاد: "دخل عليّ شاب خجول نحيل يحمل في يده مجموعة قصص قصيرة يريد أن يجد مساحة لنشرها أو نشر واحدة منها على الأقل"، وما أن انتهى من قراءة المجموعة حتى أمسك بتلابيب الصحفي الشاب صلاح حافظ.

اقرأ أيضاً: رحيل صالح علماني صوت الإسبانية العربي
تنقّل حافظ بين عدة جرائد، وأخيراً استقر في "روز اليوسف"؛ وكان فوجئ بأنّ الشاعر مأمون الشناوي يبلغه بأنّ إحسان عبد القدوس، رئيس تحرير المجلة، يريد مقابلته، وعندما ذهب إليه عرض عليه العمل معه فوافق.
يقول حافظ إنّ إحسان قرر له أن يتقاضى أعلى أجر لمحرر مبتدئ ومقداره خمسة عشر جنيهاً، ولم يكن قد سبق في تاريخ "روز اليوسف" أن بدأ محرر فيها بمثل هذا المبلغ، ووافقت السيدة فاطمة اليوسف على هذا الأجر، ولم تنسَ أن تخطره بأنّ محمد التابعي ترأس تحرير المجلة بخمسة جنيهات فقط.

 


كتب حافظ عموده المتألق "انتصار الحياة"، الذي أكد فيه دائماً: "بدون قضية تدافع عنها يستحيل أن تبدع فناً حقيقياً"، جذب العمود الأسبوعي اهتمام جمهور ضخم من الشباب، يقول مؤرخ الحركة الشيوعية المصري الراحل الدكتور رفعت السعيد: "في عام 1951 -وكنت أيامها في التوجيهية- اكتشفت صلاح حافظ وتعلقت به دون أن أراه، كان عموده العبقري "انتصار الحياة" يتألق كل أسبوع في "روز اليوسف"، لأزداد إعجاباً به في كل مرة، وبدأت في قص العمود ولصقه في كشكول، واتخذته مادة للتجنيد بين زملائي الطلاب".

 

رغم تنقله دائماً كان يُعرف بعمود "انتصار الحياة" الذي احتضن مقالاته في روز اليوسف 3 أعوام

كانت شهرة هذا العمود تطارده في أي مكان أو صحيفة يذهب إليها على الرغم من أنّه كتب في شتى المجالات حتى أدب الأطفال، لكن دائماً كان يُعرف بـ"انتصار الحياة"، الذي احتضن مقالاته في "روز اليوسف" لمدة ثلاثة أعوام.
حاول الابن الالتزام بالوعد الذي قطعه على نفسه لأبيه بالاستمرار في كلية الطب؛ بالرغم من الأعباء المهنية والسياسية التي ازدادت عليه، فبعد نجاح ثورة يوليو 1952 في الإطاحة بالملكية، والنظام الاجتماعي الذي حافظت عليه، قامت قيادة الضباط الأحرار بالدخول في صراع مع قوى الحركة الوطنية؛ وسجنت قيادات وأعضاء "حدتو" بغية سحق التنظيم، فقام صلاح حافظ واثنان من رفاقه بتشكيل قيادة جديدة للحركة، أجاد حافظ إخراج منشوراتها، كانت خطوة دعمت تماسك التنظيم وقوته وزادت من جاذبيته للأعضاء الجدد، ولكن النظام الجديد استطاع القبض عليه، وعندما سأل أصدقاء حافظ جمال عبد الناصر الصفح عنه قال: "ابني وبربيه"!

اقرأ أيضاً: مصطفى محمود: رحلة بين الشكّ والإيمان لم ينتهِ الجدل حولها
أتاح السجن لحافظ فرصة للتأمل في أحوال رفاقه؛ ليمارس نقداً ذاتياً حاداً ضد التنظيم لكن بأسلوب رقيق ينسجم مع شخصيته، كانت مدة السجن الممتدة ثمانية أعوام قاسية جداً عليه، وكعادة السجون كسرته ليتحول برغم صبره وعناده إلى بقايا إنسان.

 


خرج صلاح حافظ من السجن في نيسان (أبريل) 1964 أكثر صلابة وعذوبة، تولى رئاسة تحرير مجلة "آخر ساعة" وصعد نجمه فيها، ليعود بعدها إلى روز اليوسف كاتباً ثم نائباً لرئيس التحرير، ثم يتولى رئاسة التحرير في مرحلة حرجة ومتوترة في عهد الرئيس الراحل محمد أنور السادات في السابع عشر من حزيران (يونيو) 1974.

 

اقرأ أيضاً: جاد الكريم الجباعي: مولع بالاستنارة لم يفقد دهشة المعرفة
أثناء انتفاضة 1977 غضب السادات من صلاح حافظ بسبب انتصاره للانتفاضة التي وصفها بالانتفاضة الشعبية في تحقيق نشرته "روز اليوسف" حينها بعنوان "أسبوع الحرائق، الحكومة أشعلت الحريق والسادات أطفأه"، في حين وصفها السادات بـ"انتفاضة الحرامية"، وكان من تداعيات ذلك الغضب أن اتصل به وطلب منه أن يختار من يليه.

خرج من السجن العام 1964 أكثر صلابة وعذوبة ليتولى رئاسة تحرير مجلة "آخر ساعة" وصعد نجمه فيها

وبعدما أصدر السادات قانون الأحزاب، وأصبح من حق كل حزب إصدار جريدة ناطقة باسمه، قرر حزب التجمع أن يكون رئيس تحرير جريدته صلاح حافظ، واختار حافظ اسم الجريدة "الأهالي"، وكانت حجته أنّ هناك جريدة لها ذات الاسم، فتوقع نزاعاً قانونياً يكسب الجريدة شهرة قبل أن تبدأ، وساهم فيها بحماس، وكتب فيها عموده الشهير "دبوس" الذي حقق جماهيرية غير مسبوقة، ولتستمر بعد ذلك كتابات صلاح حافظ في الصحف والمجلات العربية.

 


تصف الكاتبة الصحفية المعروفة، سناء البيسي، مشهد إحساس الكاتب الكبير صلاح حافظ بالألم يتسلل لعقله، فتقول: "في أخريات أيامه كان يموت شيئاً فشيئاً‏ًً، وكان القلم الذي أطاعه صاغراً لسنوات طويلة خصبة متدفقة يعصاه، ويستعصي عليه فيلتفت مبتسماً لمن حوله يشكو من أنّ أصبعه لا يطاوعه كأنّه ليس أصبعه‏، وكان هذا العصيان من الأصبع والقلم من علامات المرض الخبيث الذي بلغ المخ".

 

اقرأ أيضاً: لماذا اختصم محمد الطاهر بن عاشور مع الرئيس بورقيبة؟
في صباح الأربعاء الموافق ‏السادس من تشرين الأول (أكتوبر) العام ‏1991 جلس صلاح حافظ يكتب يوميات أخبار اليوم كعادته، والتي كانت تتحدث عن ثلاثة موضوعات رئيسة‏: مؤتمر السلام‏، وأزمة الخليج‏، ومشكلة مواطن أرسل له خطاباً من إحدى قرى مصر‏، وفجأة سقط على الأرض لتُجرى له جراحة عاجلة لاستئصال الورم من المخ‏، وتحسنت صحته فترة، إلا أنّ المرض داهمه من جديد، فسافر بقرار رئاسي إلى السويد؛ حيث أُعطي علاجاً مكثفاً إلا أنّ حالته تفاقمت، وما لبث أن فاضت روحه مستقبلاً الموت بابتسامته الدمثة المعهودة.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية