سامح عسكر: المسلمون جنوا ثمن معاداة المدرسة العقلانية

سامح عسكر: المسلمون جنوا ثمن معاداة المدرسة العقلانية


27/11/2019

أجرى الحوار: ماهر فرغلي


قال الكاتب والباحث التاريخي والفلسفي، سامح عسكر، إنّ الإسلام "ليس فيه كهانة"، وإنّ المنطق يفرض على كل فقهاء ومثقّفي المسلمين "عدم تقديس" أي مخلوق واعتبار نقده والاعتراض عليه مباحاً وفقاً للمنهج العلمي والرد الموضوعي، مؤكداً في حواره مع "حفريات" أنّ التعامل مع النص الديني يجب أن يكون بالتفريق بين المحكم والمتشابه والظني والقطعي، وليس وفقاً لتوجيهات القدماء.

اقرأ أيضاً: هل علينا إعادة التفكير في مفهوم العلمانية عربياً؟
وأضاف الباحث المصري أنّ الفقه التراثي والمعاصر عموماً لا يؤمن بالعقل كسبيل لفهم الدين؛ والعصر الذي نعيشه وما زلنا عاجزين عن مجاراته والتفاعل معه أحياناً؛ بدليل تأخّرنا بعد دخول الحداثة لدينا بمئة عام، "بل يخرج بين ظهرانينا من يطالب بالخلافة وتطبيق الشريعة كحل وحيد، وهي لو كانت كذلك لأنصفت من طبّقها أولاً ولأعيد النظر في تجاربها ثانياً".

المسلمون الآن ضعفاء فكرياً وعلمياً واجتماعياً للحد الذي أصبحوا فيه وقوداً لحروب غيرهم

وأعاد عسكر أزمة الفقهاء مع العلم إلى عزلتهم عن الحداثة ومظاهر الحضارة ووسائل التقدم العملية التي تتطلب منهم تفاعلاً مع قوانين الكون، "فالشيوخ عندنا كانوا وما زالوا يتكاسلون عن فهم قوانين الكون والتأمل فيها مثلما أمرهم الله.. يكتفون بقولهم "سبحان الله" مع كل ظاهرة غير مفهومة"!
وفيما شدّد أنّه لا يمكن نسف أي موروث لأي أمة قال: إنّ التجديد يعني اعترافاً رسمياً أنّ الخطاب الديني "غير صالح وقديم"؛ فالدول التي ترفع شعار التجديد عليها، بحسب قوله، أن تعترف أولاً بأنّ خطابها الديني المقصود "لم يعد صالحاً، وعليها إقرار القوانين اللازمة واختيار الشخوص المناسبة لذلك"، عدا هذا الأمر فلن يكون هناك، وفق رأيه، تجديد سوى في الشكليات مع بعض التطمينات "فارغة المضمون والشعارات المستهلكة لا غير".

اقرأ أيضاً: علمانيون ضد الديمقراطية... ديمقراطيون ضد العلمانية
يذكر أنّ سامح عسكر هو عضو مؤسس في الحملة الشعبية المصرية للتنوير، ومؤسس حملة نقد الموروث على التواصل الاجتماعي، وكاتب في عدة صحف ومجلات مصرية وعربية وأوروبية، كانت له تجربة طويلة مع جماعة الإخوان، صدر له 13 كتاباً، منها: "الإخوان بين الجمود وتحديات المرحلة"، "فلسفة الأخلاق"، "رسائل في التجديد والتنوير"، "رحلتي من الإخوان إلى العلمانية"، "الفلسفة هي الحل".
وهنا نص الحوار:

مسؤولية التطرف

كتاب "الإخوان بين الجمود وتحديات المرحلة"
مَن يتحمل مسؤولية قابلية الإسلاميين للتطرف؟

لا يوجد مسؤول بعينه؛ فالمنظومة الفكرية كلها مسؤولة دون استثناء من فقهاء ومثقفين ومسؤولين..، الجميع يتحمل جزءاً من الأزمة، وأما التطرف فهو كالجراثيم المنتشرة في الهواء تصيب أضعف الكائنات مناعة، والمسلمون الآن ضعفاء؛ فكرياً وعلمياً واجتماعياً، للحد الذي أصبحوا فيه وقوداً لحروب غيرهم، وساحة صراعات كبرى بين مجرمي العالم..

المسلمون بدأوا في جني ما أحدثوه مع المعتزلة وأهل العقل القدامى لتتخلّف مجتمعات المسلمين

إنّ القصة بدأت منذ صدمة المسلمين لمشاهد وصور الحداثة في الغرب؛ لم يصدقوا أنّ ما كانوا عليه من أفكار دينية مجرد وهم، وأن دينهم الحقيقي كان غائباً لقرون. وكأنّهم بدأوا في جني ما أحدثوه مع المعتزلة وأهل العقل القدامى لتتخلّف مجتمعات المسلمين قاطبة دون استثناء، هنا وجدوا أنفسهم بين خيارين؛ إما الاستسلام للحداثة وبالتالي فقدان هويتهم، أو المقاومة عن طريق الاعتزاز بالماضي والتفاخر به توازياً مع حركات المقاومة ضد الاستعمار، والأخيرة هي التي أنتجت هذا التطرف في صور جماعات تكفيرية أخذت صفة اجتماعية في البداية؛ كالإخوان وأنصار السنة والجمعية الشرعية والدعوة والشبان المسلمين وغيرها.
وفي لحظة ما انتقلت تلك الجمعيات لممارسة التكفير والعنف سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. لكنها ظلت مرجعية للمتطرفين يستندون إليها في التواصل مع المجتمع حتى وصلت مرحلة السبعينيات من القرن العشرين فحدث ما يعلمه الكل تقريباً ببدء النشاط الرسمي والمؤثر للجماعات.

اقرأ أيضاً: مأزق العلمانية الكندية بعد منع الرموز الدينية في كيبيك
ونفهم بالتالي أن لو كانت مجتمعات المسلمين قويةً معرفياً واقتصادياً وعسكرياً لتقبلت الحداثة أو قاومتها بأساليب علمية كما يفعل البعض مع حالة العولمة مثلاً؛ فالإنسان مهما يغترب عن هويته لكنه يظل في حنين دائم لها وفي شوق لاستعادتها والافتخار بها، لكن السؤال الأهم الذي لم يُطرح: هل كنا ندافع عن هوية إسلامية متحضرة وقوية بالفعل؟ أما كانت هوية ضعيفة أنكرنا حقيقتها بجهلنا ورضوخنا للاستعمار الذي كان يهمه بالطبع بقاء تلك الحالة الضعيفة لضمان الاستغلال؟

التراث والحداثة

كتاب "رحلتي من الإخوان إلى العلمانية"
ما هو مقصدك في نقد الموروث، هل الانتقاء أم الإلغاء، وهل تخضع علوم التراث لهذا المنطق؟

لا يمكن نسف أي موروث لأي أمة، فما سُطرَ في الكتب يبقى من الناحية المعرفية، ومطلوب أبستمولوجياً لتشريح وتصور مجتمعات الماضي من نواحٍ علمية، مثلما يفعل البعض مثلاً مع كتب الطبري والخطيب البغدادي والسيوطي باعتبارها كانت تجمع الغث والسمين ولم يكن المصنف يولي رأيه فيها.

اقرأ أيضاً: كيف يمكن وصف نظام الولي الفقيه بالعلمانية؟
هنا أصبح ذلك الموروث قيمة معرفية لتصور مجتمعات الماضي لا يمكن إلغاؤها أو الاستفادة منها، لكن النقد المقصود للموروث هو (تنقيح) هذا التراث الماضوي ليتناسب مع روح العصر وثقافة ومصالح الإنسان الحديث، ناهيك عن المصلحة الخاصة للأمم، فقد يكون هناك تفسير يوافق مجتمعاً ما الآن، لكنه لا يوافق بالضرورة مجتمعاً آخر، هنا وجب التوقف بنزع الصفة الإلزامية للنص وإعادته لحجمه الطبيعي كمجرد معلومة تعمل في سياق نظرية المعرفة كما تقدم، مما يعني أن نقد الموروث كفعل يهدف بالأساس لنزع القداسة عن البشر السابقين كمقدمة لنزع القدسية عن نصوصهم، وبالتالي نتخلص من الصفة الإلزامية لما كتبوه واعتبار ما ورد في هذه الكتب معلومات يجوز نقدها والاعتراض عليها لصالح الإنسان المعاصر ولصالح الإسلام بشكل مبدئي.
ترى من أين بدأت مشكلة التراث تاريخياً؟
حدث ذلك على مرحلتين: الأولى: بعد انقلاب الخليفة العباسي "المتوكل بالله" على إخوته وقمع المفكرين والمثقفين وكل الفقهاء المعارضين وتشريع مذهب أهل الرواية بقوة السيف، لتبدأ الموجة الأولى لمحنة أهل العقل وتوقف الاجتهاد، قبلها كان الاختلاف المذهبي مشروعاً بظهور الأئمة الأربعة وغيرهم من أصحاب المذاهب الأخرى كالليث بن سعد وبن راهويه والشعبي وعطاء والأعمش وغيرهم، وقد جمع هؤلاء الإمام "عبدالوهاب الشعراني" في كتابه "الميزان" بإحصاء عشرات المذاهب المختلفة التي كان منها أيضاً الصحابة.

نقد الموروث كفعل يهدف بالأساس لنزع القداسة عن البشر السابقين كمقدمة لنزع القدسية عن نصوصهم

والمرحلة الثانية بعد الوثيقة القادرية للخليفة العباسي "القادر بالله" أوائل القرن الخامس الهجري، والتي فُرضت فيها قيود صارمة على أهل العقل وكل مخالفي الأشعرية من الحنابلة والشيعة، هنا ارتفع سهم الأشعرية بقوة السلطان لتبدأ حقبة زمنية في الفكر الإسلامي أصبح فيها التراث معصوماً وكتب الحديث مقدسة.
هذا من حيث الزمن، أما الطريقة التي بدأت بها مشكلة التراث هي تطبيق ما ورد في الوثيقة القادرية بإنشاء محاكم تفتيش على الرأي، وكانت وثيقة أشبه بالمجمع الكنسي تم فيها إقرار عصمة الصحابة، رضي الله عنهم، قولاً بعد التهم الروائية ليصبح بذلك أي حديث موصول لصحابي دليلاً في التشريع، برغم اعتراض قلة من الفقهاء وقتها على اعتبار دليل الصحابي دليلاً حقيقياً لسبق خلافهم في الفتنة الكبرى ولما ساقه الشعراني- لاحقاً - باختلاف مذهب السيدة عائشة، عن ابن عمر وابن مسعود، رضي الله عنهم، ولكثرة الصحابة المختلفين مع أحداث الفتنة خصوصاً ممن تجنبوا الحرب واعتزلوا.
لماذا لا نفهم ما طرحه علماء كثيرون في سياق الظروف السياسية المحيطة والواقع؟
المنظومة الفكرية المتحكمة الآن في الفقه تأثرت بما فعله أهل الحديث من الحنابلة والأشاعرة القدامى، وبعد توقف الاجتهاد وذم وقتل العقلاء ونفيهم بعد انقلاب المتوكل على إخوته لم يعد الفقه قابلاً للتطور كي ينظر في حقيقة تلك الظروف السياسية والواقع المحيط بالنص.

فتم التعميم وإطلاق الأحكام القيمية على الآخر وفقاً لهذا النص المقيد بالأصل، وما قاله سيد قطب والشعراوي هي تفاسير منسوخة من أعمال القدماء أنجزها قطب بلغة الأدباء والشعراوي بلغة العوام، لذا فما فعلاه في التفسير لم يكن إضافة حقيقية للدين ولا حتى لعلم التفسير أو الفقه، بل تورطوا أحياناً بإطلاق أحكام وتصوير مفاهيم من منطلق وجودي مثلما فعل قطب مع مفاهيم الجهاد والحاكمية والولاء والبراء.

هنا نحن بحاجة لانقلاب فكري على مفاهيم الماضي التي خرجت في ظروفها الزمنية كالفرقة الناجية والولاء والبراء وجهاد الطلب وغيرها مما يتربط بها من مصطلحات كدور الحرب والإسلام وأحكام أهل الذمة وغيرها، إنّه عمل شاق جداً يتطلب إنكار ذات من الدولة والفقهاء والمثقفين بهدف واحد هو الوصول لتصور علمي عقلاني للدين مناسب للعصر الذي نعيشه وما زلنا عاجزين عن مجاراته والتفاعل معه أحياناً؛ بدليل تأخرنا بعد دخول الحداثة لدينا بمئة عام، ولم نتقدم شبراً واحداً، بل يخرج بين ظهرانينا من يطالب بالخلافة وتطبيق الشريعة كحل وحيد، وهي لو كانت حلاً حقيقياً لأنصفت من طبّقها أولاً، ولأعيد النظر في تجاربها ثانياً، وفقاً لدليل الاستصحاب في المصالح المرسلة.

الفقهاء والعلم

هل أزمة علماء الدين في هذا الوقت مع العقل أم العلم أم في تصوراتهم نفسها عن الدين؟

الفقه التراثي والمعاصر بالعموم لا يؤمن بالعقل كسبيل لفهم الدين، وهم في ذلك رأوا عقلاء المعتزلة القدامى شخوصاً فاقدي الأهلية وبحاجة لقيود لكفّ آرائهم (الفوضوية) عن الدين، هكذا رأوا عقلانية المعتزلة. مجرد آراء فوضوية ليس لها رابط ولا ضابط، والسبب أنّهم كانوا لا يحترمون العقل ويقدسون في مقابله الرواية الشفهية التي دونت في عصر المتوكل العباسي.

اقرأ أيضاً: عن أي علمانية نتحدث؟
مثلاً الإمام ابن قتيبة الدينوري رغم أنّه كان دارساً للفلسفة على يد إمام المعتزلة "الجاحظ" لكنه انتقده بشدة في كتابه "تأويل مختلف الحديث"، والسبب معروف أنّ تعارضات الحديث وتناقضاته وقتها مع الدين والعقل دفعت الجاحظ لنقد هذه الروايات، فقام الدينوري بنقد أستاذه مبرراً لتعارض وتشاكس تلك الروايات، ثم كانت النتيجة أنّ أسس الدينوري ما يسمى فقه (حل مشكلات النصوص) أو (تبريرها) وفقاً لتوصيف معارضي ابن قتيبة الذي يعد هو أول وأشهر وأهم من كتب فيها وصنف خمسة كتب كاملة هي عماد الفقهاء الآن في الرد على المشككين في الروايات.

المنظومة الفكرية المتحكمة الآن في الفقه تأثرت بما فعله أهل الحديث من الحنابلة والأشاعرة القدامى

أما أزمة الفقهاء مع العلم فسببها عزلتهم عن الحداثة ومظاهر الحضارة ووسائل التقدم العملية التي تتطلب منهم تفاعلاً مع قوانين الكون، فالشيوخ عندنا كانوا – ولا زالوا – يتكاسلون عن فهم قوانين الكون والتأمل فيها مثلما أمرهم الله، ويكتفون بقولهم "سبحان الله" مع كل ظاهرة غير مفهومة، بينما العلم يفرض عليهم أن يبحثوا في حقيقة تلك الظواهر؛ لأنها محكومة بقوانين لا يعرفونها، ويوجد سبب آخر لأزمة الفقهاء مع العلم هو "نفيهم وتحقيرهم للأسباب"، هنا قطعوا كل اتصال مع تلك القوانين المحكومة بآلية وجود بين فاعل ومفعول وأسباب ونتائج وعلة ومعلول، فكانت النتيجة المباشرة أن بحثوا عن النتائج والمعلولات دوناً عن الأسباب والعلل، وهذا الذي أدى قديماً لتخلف المسلمين وعزلتهم عن العلم، انشغال تام وحصري بالنتيجة مع جهل تام وحصري بالأسباب وكسل (شرعي) عن البحث.
هل نفهم مما سبق أنّ لدى المسلمين خلطاً بين المفاهيم المعنوية الروحية والمادية؟
لم أقف على مثال لتلك المفاهيم، لكن المفاهيم الروحانية عموماً تخاطب النفس والسلوك والتربية الوجدانية، وتُنمّي شعور الحب والتواصل الاجتماعي بين الناس، فمفهوم القلب القرآني هنا سيكون روحانياً له اتصال بالذهن كقوله تعالى "من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم"  [النحل : 106] القلب في الآية يعني الضمير الذي جاء بتطور أحكام عقلية في السابق؛ لأن الإيمان لم يكن ليحدث لولا اتصال ذهني وتفاعل مع قوانين الكون.

نحن بحاجة لانقلاب فكري على مفاهيم الماضي التي خرجت في ظروفها الزمنية

وللإمام القاضي "أبي الوليد بن رشد" كتاب اسمه "الآثار العلوية" شرح فيه كيفية الاستدلال على الله تعالى والحكمة في رؤية قوانين الله تعالى وسننه بتبصّر الكون والبحث في المحسوس والغاية منه، وأما شرح الصدر فهو أيضاً يعني إقناع الضمير؛ فحالة الطمأنينة في الصدر لا تكون سوى باليقين الذهني والارتياح النفسي للمحسوس، هنا الآية تتحدث عن مفهوم الكفر العقائدي أنّه جاء بعد العلم بالحقيقة المطلقة والصدّ عنها، وأنّ إكراه النفس على شيء -في ظل قناعة الضمير بخلافه- هو استثناء من عقاب الكُفر، وأنّ ذلك العقاب سيكون مستحقاً فقط لمن اعتاد الإنكار والغرور والمكابرة ليصبح ما عليه ليس مجرد إنكار بل قناعة تامة لضرورة فعل الشر.
سيكون القلب، وفقاً لهذا السياق، مفهوماً روحانياً معنوياً وليس مادياً كما تخيله الفقهاء وحرّموا بناءً على ذلك التبرع بالأعضاء، لقناعتهم أنّ القلب في القرآن الكريم هو عضو مادي وليس مفهوماً عقلياً روحانياً معاً، وإلى هنا سيكون الخلط شائناً وفاضحاً بالفعل ومتحققاً في واقع المسلمين!

اقرأ أيضاً: علاء حميد: العلمانية العربية ردّ فعل على تغوّل الإسلام السياسي
قس على ذلك مفاهيم كالنفس والعقل بحاجة لتحريرها من التفسير المادي، مع حفظ الاعتدال في توسيع المفاهيم الروحانية والمعنوية في القرآن الكريم؛ فالألفاظ منها ظاهري محكم وقطعي الدلالة والثبوت ومنها معنوي وظني متشابه، وقد ساغ الخلاف الكبير بين الفقهاء جميعهم حول تلك المتشابهات وحقيقة عدّها من التشابه والظنيات، ومن هذا الاتجاه ظهر فريق من الفقهاء ينتصرون ويتوسعون في موانع التكفير كي لا يطال عملهم مؤوّلاً في المتشابه.

التعامل مع النص الديني

 

 

كيف برأيك يجب أن نتعامل مع النص الديني؟

يجب أن يكون ذلك بالتفريق بين المحكم والمتشابه والظني والقطعي، ليس وفقاً لتوجيهات القدماء لهم، بل وفقاً لتعريفاتهم الاصطلاحية أولاً في الفقه، ولمصالح المسلمين المعاصرة ثانياً، ولا يحدث ذلك إلا بالوقوف على تعريف هذا النص وضرورة العلم به قبل كل شيء؛ فالنص القرآني لا يتساوى مع النص الروائي، هذا إلهي وذاك بشري، الأول؛ معصوم من الخطأ والزلل أما الثاني؛ فغير معصوم لأصحابه المحدثين الذين هم في الدين الإسلامي بشر عاديون.

الدولة والفقهاء والمثقفون مطالبون بالوصول لتصور علمي عقلاني للدين يناسب العصر الذي نعيشه

ومثلما نقول إنّ الإسلام ليس به كهانة فالمنطق يفرض على كل فقهاء ومثقفي المسلمين عدم تقديس أي مخلوق واعتبار نقده والاعتراض عليه مباحاً وفقاً للمنهج العلمي والرد الموضوعي، باختصار: القرآن الكريم هو النص الوحيد، ليس الأول أو الثاني؛ فوضع كلام الله تعالى بين أعداد يعني مساواته بالرتبة مع كلام غيره، أما الأحاديث والروايات فهي شواهد لفهم وتفسير النص الوحيد، وكذلك ما وصل إليه العلم الحديث، كل ذلك بالعقل يكون القرآن الكريم مفهوماً دون وصاية روائية مثلما يفعل بعض الفقهاء الذين يعطلون آيات الله بالناسخ والمنسوخ.
وفي دراساتي السابقة تحديت الفقهاء بتوثيق كتب الناسخ والمنسوخ القديمة كالمنسوبة لابن شهاب الزهري وقتادة بن دعامة ونافع بن الأزرق عن ابن عباس، بل جميعها خرجت في ظل الصراع مع المعتزلة ولتبرير ما قاموا به مع أهل العقل واضطرارهم للكتابة في مشكل وغريب القرآن الكريم كما فعل ابن قتيبة الدينوري، وما كان هذا ليحدث لولا أنّهم عطّلوا النص القرآني لصالح أقوال الأئمة، الأمر الذي أدى لظهور مشكلات في التفسير والتأويل ورثها الشيوخ المعاصرون الآن ولم يستطيعوا حلّها.
أي مطلوب أن ننزع القداسة عن رجل الدين لكي نتعامل مع النص، لكن كيف أتت هذه القداسة؟
عن طريق أمرين اثنين، أولاً: (تبسيط وتعقيد أفكاره) فهو يُبسّط حديثه للعامة إليهم نفسياً ويقنعهم بعلمه، أما التعقيد فهو ضروري ووسيلة شائعة للتقديس توازياً مع التبسيط؛ لأنّ التعقيد بمفرده سيؤدي إلى الملل والضجر، لكن بالتبسيط يصل الحد الأدنى من العلم اللازم للمتابعة والفهم والتشويق، وأما الأفكار المعقدة فهي التي تثبت للعامة أنّ رجل الدين عالم جهبذ لا يشق له غبار، ذلك لأن الناس تخاف مما تجهله، وتقدس ما تخاف منه!

اقرأ أيضاً: العلمانية كحلّ؟.. الإسلاموية وعلاقة الدولة بالدين
ومثلما عبد الناس الجن والعفاريت والكواكب والشمس قديماً لخوفهم منها، ظنوا أنّ رجل الدين معه مفاتيح الأسرار الكونية التي تمكنه من إلحاق النفع والأذى بهم، وهذا سر اجتماعي لسطوة الدجالين.
أما العامل الثاني لتقديس رجال الدين فراجع للتحالف مع قوى النفوذ والسيطرة، ورجل الدين بالعموم سلوكه معتاد تاريخياً فلم يتحدَّ يوماً ما قوياً إلا وكان يشعر بقوته التنافسية، فإذا ظنّ أنّه الأضعف سيوالي الأقوى ويتحالف معه ليبقى شريفاً وعظيماً بين الناس، ولأنّه يعلم تمام العلم أنّ الله تعالى يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن لسبق علمه أنّ تكذيب السلطان -خصوصاً في العصور القديمة- سيؤدي حتماً إلى السجن والقتل فيرتدع.
وبهاتين الوسيلتين يؤسس رجل الدين قدسيّته بسرعة، وفي علم النفس يتعلق الضحايا بالمجرمين دلالةً على ارتباط وثيق غير مرئي بين القوي والضعيف يتصور فيه الضعيف حياته دون معنى سوى بالقوة المفقودة، هنا رجل الدين يمثل قوة اللسان في النموذج الأول وقوة السيف في النموذج الثاني.

مفهوم الولاء والبراء

كتاب "مدينة الإخوان"
برأيك ما مسبب التطرف؛ هل هو الثقافة والتاريخ والمعلومات التي شكلت أيديولوجيا وعقائد الجهاد أم الاستبداد والكراهية؟

كل هذه عوامل صنعت التطرف وبينها وبين بعضها مشتركات؛ فالثقافة تتخلف في ظل الاستبداد، ففي الوقت الذي يبحث فيه المستبد عن حماية لسلطانه يلجأ أولاً إلى تقييد حركة وحريات خصومه، ومبدأ التقييد يؤدي للعُزلة، والعزلة تؤدي إلى الجهل بما يلزم معرفته، بينما العلم والثقافة يأتيان في ظل الانفتاح الذي هو شرط أساسي للثقافة.

اقرأ أيضاً: هل ساهمت العلمانية في بروز الإسلام السياسي؟
والتاريخ يؤكد أنّ أكثر الناس علماً هم الفلاسفة والرحالة لانفتاحهم على ثقافات الآخرين، عقلياً وتجريبياً، سواء بمناقشة أو احتكاك، أما دور التاريخ فهو المادة الخصبة التي تتذرع بها الجماعات والمستبدون للشعب في تبرير سلوكياتهم، لذلك كانت أهم صفة لازمة للمثقف هي تجريد التواريخ وفهمها بسياقها الخاص واستنتاج المعاني منها لصناعة أفكار تقدمية بعد ذلك.
لماذا تنكر مفهوم الولاء والبراء رغم وجود أصل قرآني يمكن الاستدلال به؟
هذا المفهوم أصله عند أصحابه قوله تعالى "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم"  [المائدة : 51] و"لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء" [آل عمران : 28]، و"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة"  [الممتحنة : 1]..
نلاحظ أنّ هذه الآيات مدنية كان المسلمون خلالها محاربين، وقيم الحرب مختلفة عن قيم السلام، وطبيعي في الحرب سيصبح من يوالي العدو خائناً ينطبق عليه قوله تعالى "فهو منهم"؛ فالآيات خُصّت إذن لقومٍ يعرفهم الرسول، عليه السلام، والصحابة، رضي الله عنهم، لإشمال الأمر المحكم بأنّه لا قتال ولا تبريء ممن ينشدون السلام ولا يحاربون المسلمين في دينهم، قال تعالى "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم"[الممتحنة : 8].

تعطيل النص القرآني لصالح أقوال الأئمة أدى لظهور مشكلات في التفسير والتأويل ورثها المعاصرون

إذن المسلم مأمور بالبر والقسط لمن لم يحاربه في دينه، وتلك الآية في سورة الممتحنة دليل قاطع خصّ الآيات الكريمة سالفة الذكر بتشريع الولاء والبراء لقومٍ قضوا، ولو كان الولاء للمؤمن والبراء فقط من الكافر بالمطلق لم يكن الله تعالى ليقول في سورة التغابن "يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم" إشارة إلى أنّ من تعتقدهم أقرب الناس إليك لا توجَب لهم الولاية بمجرد القرابة والإيمان.
وفي القرآن الكريم استغفر النبي إبراهيم، عليه السلام، لأبيه وكان مشركاً، وفي التراث الإسلامي كان الرسول، عليه السلام، يحب مطعم بن عدي وكان مشركاً لفضله بدعم المسلمين في شِعب أبي طالب.
البراءة الحقيقية هي من الأفعال لا الأشخاص، قال تعالى "فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون" [الشعراء : 216]، ولو كانت البراءة من غير المسلمين بالمطلق لما جاز نكاح الكتابية؛ إذ كيف ستنكح من تكرهه وتبرأ منه؟! هنا لزم تخصيص آيات الولاية والبراءة في أشخاص وجماعاتٍ قضوا أولاً، وللأفعال ثانياً، فما يجمع الناس هو المصلحة، ومثلما تحالف النبي، عليه السلام، في غزوة الأحزاب مع خزاعة المشركة جاز تولي مشركين دفاعاً عن مصالح المسلمين بالأصل.

اقرأ أيضاً: محنة العلمانية في تركيا التي يقودها الإسلاميون
وأما تخصيص فعل التولي والتبري فيُبحَث في سياقه، إن جاز قبلناه، عدا ذلك فالأصل التشريعي أنّه لا يجوز الولاء والبراء بهذا المفهوم الفقهي الشائع في كتب العقائد والسياسة الخاصة بالمذاهب القديمة والجماعات. إنّ مصطلح الولاء والبراء -بمفهومه الحالي- هو مصطلح مذهبي سياسي أسسه ابن تيمية في رسائل العبودية، وقاعدة في المحبة والاحتجاج بالقدر، وفتاواه الكبرى، لكن بدون تصريح لفظي بـ"الولاء والبراء" لكن جميع قواعده اشتقّت من ابن تيمية.
جاء بعد ذلك علماء الوهّابية نشروه لفظياً كشرط أساسي لحشد المقاتلين والمجاهدين مذهبياً، وقلت مذهبياً؛ أي ليس تحت مظلة الإسلام؛ فهم يكفّرون أصحاب المذاهب الأخرى خصوصاً الشيعة ويتبرأون منهم وفقاً للمعنى الذي شرحه ابن تيمية، وكذلك كل من يخالفهم في فهم المذهب ورأينا اختلاف الجماعات السلفية لعشرات الفرق وصل اختلافها لحد التكفير والتبرّي لقيام المفهوم لديهم على تصورهم للدين لا الوطن أو الهدف؛ فهو إذن مفهوم خطير في ذاته يؤسس لانشقاقات بناءً على تفاسير عقلية وتقليدية وأحياناً مواقف نفسية ومصالح مادية بين المختلفين لن يتوقف عملهم على حدود الفعل بل سيتطور لحروب دينية.

تجديد الخطاب الديني

 

 

هل أنت مع "أهل الدين" أن يكونوا أولى بالكلام في تناول قضايا الشأن العام؟
لا يوجد شيء اسمه أهل دين؛ فالدين ملك العامة ويحاسَب عليه المرء يوم القيامة، كل من تدين هو مسؤول عن أفعاله هو، لا أفعال غيره، فلا يليق تخصيص الدين لمجموعة بعينها، والصحيح أنّ قضايا الشأن العام متعددة منها؛ الاقتصاد والسياسة والثقافة والاجتماع والحرب وغيرها.

الأفكار المعقدة هي التي تثبت للعامة أنّ رجل الدين عالم جهبذ لا يشق له غبار

كل هذه مسائل متخصصة يجوز لأي متدين الدخول فيها والكلام بشأنها شريطة أن يكون متخصصاً أو عالماً بها أو مدركاً لحدودها الدنيا المعرفية، ومن هذا المبدأ أرى حق رجل الدين أن يتكلم في السياسة، ولكن شريطة أن يكون حديثه سياسياً وليس دينياً، ولو لم يفرق بين الاثنين فلا يتحدث، هنا الحق الشخصي والإنساني فوق كل اعتبار.
أما العلوم فلها مجالها المحدود عن ذلك المعتبر، مثلاً في أمور الطب قد نجد طبيباً هو بالأصل متدين أو رجل دين، لا مانع من ذلك ولكن شريطة أن يمارس الطب بالطب ولا يخلط تصوراته الدينية في مهنته، قس ذلك في الاقتصاد والحرب والسياسة، كلها علوم مستقلة بنفسها ولا يجوز فهمها إلا بها أولاً، ومن ذلك يتبين أنّ توصيفنا "أهل دين" و "شأن عام" هو تقرير مسبق لجديات تخص حقوق الكهنة، بينما الدولة يفترض أن تساوي بين الجميع وتبحث عن حقوق الجميع، فإذا سألنا هل لأهل الدين أن يتحدثوا في الشأن العام فلنا الحق في المقابل أن نسأل أي دين تقصد؟ وهل يجوز لأهل الثقافة أن يتحدثوا بنفس الحق؟
كيف ترى دعوات تجديد الخطاب الديني؟ وكيف يكون هذا التجديد؟
لفظ التجديد يعني اعترافاً رسمياً بأنّ الخطاب الديني غير صالح وقديم، كلفظ التنوير هو اعتراف ضمني بأنّ الخطاب الديني ظلامي، لذلك فالدول التي ترفع شعار التجديد عليها أن تعترف أولاً بأنّ خطابها الديني المقصود لم يعد صالحاً، وعليها إقرار القوانين اللازمة واختيار الشخوص المناسبين لذلك.

الولاء والبراء مفهوم خطير في ذاته يؤسس لانشقاقات بناءً على تفاسير عقلية وتقليدية وأحياناً مواقف نفسية ومصالح مادية

عدا هذا الأمر لن يكون هناك تجديد سوى في الشكليات مع بعض التطمينات فارغة المضمون والشعارات المستهلكة لا غير. التجديد سيكون بالقرار السياسي أولاً، فإذا ما قررت الدولة ذلك يمكن لمجلسها التشريعي مناقشة وسن القوانين، ودعوات التجديد الحالية في مصر مقبولة لكنها لا زالت في معدلها الأدنى، وكوادرها قليلو الخبرة في التعامل مع المخالفين، فصفات المجدد لا يجب أن تتوقف فقط على العلم أو الشكل، بل أهم شيء حُسن الأخلاق والتواصل وتقديم صورة طيبة مقنعة للناس.
هكذا كان الأنبياء، لم يتصدّوا لمهمة الإصلاح إلا بعد استيفاء الشروط اللازمة من سمعة حسنة وأخلاق حسنة وعلم وافر وغزير مع ذكاء فطري أو مكتسب أحياناً. ويجب أن يعلم المجدد أو المستنير أنه سيدفع ضريبة، على الأقل، من كرامته لصدامه المتوقع مع ثوابت موجودة ومحتملة ونفوذ قوي لرجال دين يهمهم ضعف المجددين، والتجديد لن ينجح في النهاية بدون قرار سياسي وتشريعات مناسبة ومشجعة لشباب المثقفين والباحثين.

اقرأ أيضاً: هل يمكن أن تلتقي العلمانية مع الدين؟
ولن تتوقف محاسن دعم الدولة على تشجيع المتنورين مباشرة فقط، بل ستتشجع فئات رأسمالية لاستثمار أموالها في دعم الثقافة، وهذا شرط أساسي في التجديد أن يخلف قرارات الساسة والمشرعين جهد رأسمالي في دعم الحركة التنويرية سواء بإنشاء قنوات وصحف ومواقع وبرامج أو طبع كتب لباحثين وأدباء من غير القادرين، سيؤدي ذلك في النهاية لتوسع الحركة الثقافية لتحتك مع الشعب باطمئنان وتقنعه بضرورة التغيير للأفضل.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية