رواية "حصن الزيدي": عودة الإمامة برداء جمهوري!

رواية "حصن الزيدي": عودة الإمامة برداء جمهوري!


11/03/2020

الصراع في رواية "حصن الزيدي" للروائي اليمني الغربي عمران، صراع سياسي، أو هو صراع على السلطة يكشف عن ثلاثة أنواع من الفاشيات: الفاشية السياسية والدينية والعسكرية، تتحالف هذه الفاشيات أحياناً وتختلف أحياناً أخرى فتدخل في صراع دموي ضحيته الشعب. والشعب أداة يستعملها أطراف الصراع.

اقرأ أيضاً: حكاية الرواية التي قيل إنها تنبأت بفيروس كورونا قبل 39 عاماً!
وثمة حرب لا تتوقف -في أحداث هذه الرواية- تبدأ بالحرب على الشعب نفسه؛ فالحاكم، الشيخ مرداس، يوطّد حكمه بالقمع والإذلال، ويملأ سجن الحصن بالرعايا، لأسباب واهية أو بدون سبب مُعيَّن. وحرب يشنها على خصومه من شيوخ المناطق المجاورة، مثل الشيخ شنهاص. وعندما يستتب له الحكم مؤقتاً ينشأ صراع بين الحليفين: السياسي والديني، ليتمخض عن صراع ديني-ديني في الظاهر.
أشكال الصراع ووقوده
الثورة والدين والسياسة موضوع رئيسي في روايات عمران التي تصف واقعاً- ماضياً وحاضراً، أو حاضراً في صورة ماضٍ- أكثر مما تستشرف مستقبلاً. ترصد هذه الرواية تطور الصراع على السلطة من تحالف مؤقت بين سلطة الحكم، ممثلة بالشيخ مرداس، وسلطة الدين، ممثلة بمستشاره زيد الفاطمي، يقود إلى صراع بين الحليفين، ويفضي إلى الكشف عن استعمال السياسي للدين واستعمال الديني للسياسة، وخلال هذا الصراع ثمة ثورة تشتعل وتخبو.

اقرأ أيضاً: هل انتهى زمن الرواية؟
كما ترصد الرواية في سرد متصاعد تطور أشكال هذا الصراع وأدواته، تبدأ الثورة بتململ شعبي هامس ثم غضب معلن وتمرد مسلح، ويأتي العسكري في النهاية على ظهر دبابة ليوظف هذا الغضب والتمرد لصالحه. تتغير المسميات لكن مضمون الحكم واحد.

غلاف الرواية
حصن مرداس يتحول بعد أن يسيطر مستشاره زيد الفاطمي على الحكم إلى "حصن الزيدي" ثم يفر هذا في لباس خادمة- في إشارة إلى فرار الإمام أحمد بن يحيى حميدالدين في ثوب امرأة بعد اندلاع ثورة أيلول (سبتمر) 1962. وبعد أن يسيطر الضابط جمال على الحكم يقوم بتغيير الأسماء إلى "حصن الثورة" و"ساحة الثورة"، ويشكل من جموع الشعب الثائر لجاناً ثورية "لملاحقة من يشتبه في مناصرته للخونة أعداء الثورة".

يمسك السرد بتلابيب القصة من منتصفها من اللحظة التي يطلب فيها جبار من أبيه أن يقتله

تجيب الرواية على نحو مضمر عن الظروف التي تقود إلى نشوء التطرف الديني. ويتمخض الصراع على السلطة في الأخير عن صراع بين التيار الشيعي الزيدي والتيار السني السلفي. وتجيب أحداث الرواية عن كيفية تطور هذا الصراع من صراع سياسي على السلطة إلى صراع ديني؛ صراع أداته الدين وهدفه السلطة. وتلمِّح الرواية بهذا إلى أنّ سبب الصراع بين المذهبين هو في حقيقة الأمر سياسي، لا أكثر، وأنّ انتهاء الصراع على السلطة، بأدوات ديمقراطية، من شأنه أن ينهي الصراع من جذوره.
مسارات التصعيد وبناء الشخصيات
التطور في الصراع يوازيه تطور في الأسلحة المستعملة: من بندقية الجرمل، إلى بندقية الميمن ثم بندقية الشميزر فالكلاشينكوف وينتهي بالدبابة، كما يوازي هذا التطور تطور في بناء الشخصيات، تطور يبدأ بالقوة وينتهي تدريجياً بالضعف.
الشيخ مرداس القوي ينتهي إلى الجنون، والسجن الذي ملأه بالناس في عز جبروته يصبح هو أحد سجنائه. وتكشف أحداث الرواية عن جانب ضعف في الشخصية الذكورية التي تمارس بطشها وجبروتها على العوام، لكنها تقف رقيقة ومستسلمة أمام المرأة، كما فعل مرداس أمام زوجته شبرقة وفعل ابنه عنصيف أمام الخادمة حمامة.

اقرأ أيضاً: الحداثة وما بعدها في الرواية العربية المعاصرة
شبرقة سيدة الحصن تنزوي داخله ويضمحل دورها، تحاول استعادة شخصيتها كامرأة قوية بمحاولة تسميم زوجها، وبعد أن تفشل محاولتها تنتهي إلى الانتحار بتجرع السم الذي كان يمكن أن يقتله، ابنه عبدالجبار، أو جبار، الذي يمارس العنف والقتل والبطش يموت بالسلاح نفسه: تصيبه رصاصة بشلل نصفي فيتضرع إلى أبيه ليخلِّصه من المعاناة بقتله، أخوه عنصيف كذلك يموت بالسلاح الذي طالما أجاد استعماله.

اقرأ أيضاً: الرواية يمكنها أن تصلح ما أفسدته السياسة
زيد الفاطمي يبدأ مستشاراً للشيخ مرداس ثم حاكماً ثم هاربا، لا يشغله مقتل ابنته فاطم ولا يحقق في مقتلها بقدر ما تشغله السلطة، تتدهور شخصية الشيخ شنهاص من حاكم على جانب من الوادي إلى متشرد في غابة الجبل ثم إلى معالج شعبي يداوي آلام الناس بالخرافات وهو متخف بهوية امرأة، ثم إلى شيخ دين يتزعم المذهب السلفي ويدافع عنه أمام المذهب الشيعي. تتطور شخصية ابنته شادن من أسيرة تخدم في بيت الشيخ مرداس إلى ثائرة تقاتل جنوده في محاولة لإنقاذ نفسها وإنقاذ زُهرة.

الصراع في الرواية صراع على السلطة يكشف عن 3 أنواع من الفاشيات: السياسية والدينية والعسكرية

الشاب عرَّام المليء بالحماس يبحث عن ثورة أخرى ليكون وقوداً فيها ويجد ضالّته في ثورة جنوب اليمن، ويموت في عدن أثناء مقاومة الإنجليز. قارون يعود إلى قرى الحص وقد سكنته عدن بالبهجة والغناء والثمالة. يتوقف الصراع عند قصة الحب التي جمعته بزهرة كاستراحة أو كواحة سلام في صحراء الحرب، وهي قصة تذكرنا بحال الحياة الرومانسية الجميلة التي يمكن أن نعيشها لو أن هذا الصراع الدموي يتوقف.
الشخصيات النسائية في الرواية كلها إيجابية ما عدا ابنتي مرداس اللتين حرمهما أبوهما من الزواج وأهملهما ضمن ثقافة ذكورية تولي اهتمامها بالذكور الذين يذهبون ضحايا للثقافة نفسها، وما يظن الذكور أنّه سيبقى بعدهما- أسماؤهم التي سيأتي من يحملها بعده من الأبناء- تأتي المفارقة لتقول إنّ المرأة، ممثلة بابنتي الشيخ، يمكن أن تظل صامدة حتى النهاية.
لا ترصد الرواية أشكال الصراع وحسب بل وتُؤوِّل عدة قضايا من بوابة "الحاجة أُم الاختراع"

التأويل وإسقاط المتخيل على الواقع
لا ترصد الرواية أشكال الصراع وحسب بل وتُؤوِّل عدة قضايا من بوابة "الحاجة أُم الاختراع"، فطبقة الأخدام أو العبيد نشأت، كما تلمح أحداث الرواية، بعد أن خيَّرهم عبدالجبار ابن الشيخ مرداس بين الطرد من قرى الحصن وبين العمل كعبيد، فاختاروا العبودية على الحرية، تحت ظرف الضرورة أو الضعف أو الحاجة كما تحاول الرواية أن تُلمِّح.  وتلمح الرواية كذلك إلى الكيفية التي تنشأ بها الخرافة وكيف أن حاجة الناس تدفعهم إلى الإيمان بأي قادم يحمل لهم الراحة أو الوعد بالشفاء ولو بالدجل والشعوذة.

الشخصيات النسائية في الرواية كلها إيجابية ماعدا ابنتي مرداس اللتين حرمهما أبوهما من الزواج وأهملهما

كان يمكن لدائرة هذه الرواية أو مظلتها أن تتسع لتشمل العالم أجمع لولا أنّ الرغبة في إسقاط أحداث الرواية على التاريخ المحلي استولت على الروائي، ولعله لم يدرك أن توسيع الدائرة كان من شأنه أن يُبقي على هذا الإسقاط قائماً مع الاحتفاظ بميزة أن يرى فيها القارئ العربي والعالمي مرآة لما يدور في بلده من صراع. والنتيجة أن هَم التاريخ والشأن المحلي سيطر على الروائي فغرقت روايته في مستنقع المحلية وكان لها أن تحلِّق وتضع نفسها بين مصاف روايات عالمية تعالج مثل هذه القضايا الواقعية بمكان وزمان وأحداث متخيلة. نسبة المتخيل في هذه الرواية أكبر من نسبة الواقعي، وكان لهذه النسبة أن تكبر لو أن أسماء -هامشية في الرواية- مثل صنعاء وعدن والقاهرة اختفت من هامش المكان لتحل محلها أسماء متخيلة تُلمِّح ولا تُصرِّح، مثلما فعل الروائي في أغلب الأحداث والأمكنة.

اقرأ أيضاً: هل أسهمت الرواية في انحسار القصة القصيرة؟
يمسك السرد بتلابيب القصة من منتصفها، من اللحظة التي يطلب فيها جبار من أبيه أن يقتله، سيتموضع هذا الحدث في المنتصف إذا رتّبنا الأحداث وفقاً لزمن القصة، هذا الغموض المسكوت عنه -حتى نهاية الفصل الأول "مرداس"- سيكون عنصر تشويق يمتد طوال الفصل المكون من 125 صفحة. ويغلب على السرد تقنية "السارد العليم"- وهي التقنية المفضلة في كل أعمال عمران- مع بضع فقرات بتقنية الاسترجاع وبلغة السارد العليم، لشبرقة وهي تسترجع ذكرياتها بعبارات مثل: "ذكريات الأمس" ص9، "تتذكر يوم وصلت مجموعة من الرعايا.." ص10، "يحضرها ذلك اليوم..." ص11، "أفاقت شبرقة من ذكرياتها.." ص14.

اقرأ أيضاً: ندوة تناقش "بيرة في نادي البلياردو" ضمن سلسلة "الشيوعي في الرواية المصرية"
تنهي هذه العبارة الأخيرة تقنية الاسترجاع، لكن الفقرة التي تليها- التي تبدأ بعبارة "أما تلك الشابة السمراء، حمامة، فقد أمست داخل أسوار الحصن..."- تستكمل الأحداث، بتقنية السارد العليم وتوهم القارئ بتداخل في الزمن أو بخطأ تقني كان يمكن تلافيه باستمرار السرد بتقنية الاسترجاع أو بتوقف السرد عند نهاية فقرة "أفاقت شبرقة من ذكرياتها"، وبداية حدث جديد- مرقم وفي صفحة جديدة- يتعلق بحمامة، وبإعادة صياغة بداية العبارة على نحو آخر كأن يكتب "أمست حمامة داخل أسوار الحصن..."
أحداث الرواية متسارعة وغزيرة وتكشف عن مخيلة خصبة ومهارة في التخييل السردي يمتلكها الغربي، بخاصة وصف المكان، وما فاقم هذا التسارع أنّ الانتقال بين حدث وآخر لا يتخلله فواصل، وكان له أن يكون سلساً لو أنّ فصول الرواية الثلاثة قُسِّمت إلى أرقام تبدأ مع بداية كل صفحة.

الرواية مقسمة إلى ثلاثة فصول: مرداس وزُهرة وقارون
الرواية مقسمة إلى ثلاثة فصول: مرداس وزُهرة وقارون، والأحداث في الفصل الأخير أكثر تسارعاً، وتنتهي- كما في كل روايات الغربي- نهاية مفتوحة يمكن قراءتها على أكثر من وجه. يغيب جمال، أو يختفي، بعد أن كان قد وعد جموع الشعب بغدٍ أجمل تشرق فيه شمس الحرية "فلا خادم بيننا ولا رعوي، كلنا سواسية، ولا مكان للسلالية ولا للمذهبية، غداً بِكُم وادينا سيبدأ مسيرة الحياة الثورية..".
آلية الإسقاط والمقارنة ستعمل عند القارئ ليقارن بين ما وعد به جمال في الرواية وما وعد به في الواقع؛ ليجد أن زيد الفاطمي- الذي فر متخفياً في زي امرأة- عاد بثورة مضادة تتذرع بالإصلاح وتخفى وراء الدين وباسم جديد هو عبدالملك بدر الدين الحوثي، وأنّ "المسيرة الثورية" التي وعد بها جمال المتخيل انتهت في اليمن الواقع بـ"المسيرة القرآنية" التي أكلت الأخضر واليابس وأعادت اليمن قروناً إلى الوراء.
لم يُغيِّر الأئمة الجدد "أنصار الله" أو الحوثيون، اسم الجمهورية وإن كانوا حافظوا على مهام الإمام والإمامة، لا مشكلة لديهم في الاسم بعد أن أفرغوا الثورة- منذ زمن ليس بقصير- من كل محتوى ثوري أو جمهوري، ولعل تثبيت الاسم "حصن الزيدي" ليكون عنواناً للرواية فيه إشارة إلى هذه العودة؛ فحصن الزيدي مازال هو حصن الزيدي برغم الشكل الجمهوري!



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية