رواية "الإصبع السادسة".. الهروب إلى التاريخ لفهم الحاضر

رواية "الإصبع السادسة".. الهروب إلى التاريخ لفهم الحاضر


27/06/2019

في رواية "الإصبع السادسة"، للروائي السوري خيري الذهبي، والتي صدرت طبعتها الثانية بداية العام الجاري، عن دارَي: "ممدوح عدوان"، و"سرد" للنشر والتوزيع، يعود الذهبي بنا إلى زمن الاحتلال العثماني لسوريا، وتحديداً الفترة التي أعقبت الصراع العسكري بين مصر والدولة العثمانية؛ إذ إنّ تلك الفترة شهدت حربَين؛ الحرب المصرية العثمانية الأولى (1831 - 1833)، والحرب المصرية العثمانية الثانية عام 1839.

شخصية الفتاة الشابة أروى مثلت الروح الحقيقية للتمرد على المجتمع الديني وعاداته وتقاليده

ما جرى في الحرب الأولى؛ أنّه، أثناء حكم محمد علي باشا، بدأ بمطالبة السلطان العثماني بأن يمنحه ولاية الشام، مقابل مساعدته له في حرب الاستقلال اليونانية، فاكتفى السلطان بمنحه ولاية جزيرة كريت، وهو ما لم يرضَ به محمد علي، وكان السبب الرئيس في اشتعال الحرب بينهما، وانتهت بانتصار إبراهيم باشا، ووصول نفوذ دولة محمد علي إلى أعالي نهر الفرات.
أما في الحرب الثانية؛ فقد قام السلطان العثماني بتحريك جيش، في محاولة لاسترداد أراضي الشام التي نجح إبراهيم باشا في فتحها خلال الحرب المصرية العثمانية الأولى، وكان نتيجة ذلك التحرك؛ أن جهّز إبراهيم باشا جيشه وزحف مرة أخرى إلى الأناضول، إلى أن دارت "معركة نزيب"، التي انتصر فيها إبراهيم باشا على الجيش العثماني.

غلاف الرواية
في ذلك الوقت؛ كانت الإمبراطورية العثمانية على وشك الانهيار، لولا تدخّل بريطانيا والنمسا ودول أوروبية أخرى، وإجبار مصر على قبول معاهدة لندن، العام 1840.
تفتتح الرواية أحداثها بشخصية الشاويش، أبو حسان، وهو من العساكر المغضوب عليهم من الوالي العثماني، لوقوفه مع إبراهيم باشا المصري في حروبه ضدّ العثمانيين، وانتهى به الأمر في العمل كحارس لمقبرة الحيّ، وهو يحاول استعادة مكانته من خلال إمساكه بالضباع التي تتربص بالجثث المدفونة لتوّها في المقبرة، وأكلها، أو جرها إلى البرية، أو الغابة التي تقع خلف المقبرة.

تتوالد الحكايات التي تلقي الضوء على تخبط المجتمع وانشغالاته في تلك المرحلة

لكن، وأثناء حراسته لجثة شاب كان قد مات يوم عرسه، يكتشف جثثاً لأطفال حديثي الولادة، قد ولدوا مشوَّهي الخلق، فهم يولدون وفي إحدى قدميهم أو أيديهم إصبعاً سادسة، أو يكتشف أنّ هناك نتوءاً يوحي بوجود ذراعٍ ثالثة.
وكان الشاويش يعاني من عقم، وفشل خلال أعوام زواجه أن ينجب هو وزوجته طفلاً، "كان وخديجة مستعدين لخسارة يد أو ساق والحصول على طفل يملأ حياتهما، ولو كان برأسين، وثلاثة أذرع، ولكن... لا طفل، وأولئك الفسّاق "البَطِرون" يقطعون رأس طفل بكلّ برود!".
أما حسن الآغا المرعشلي؛ فهو الرجل الذي تأثّر بالأفكار الغربية، وخصوصاً بالثقافة الفرنسية، أثناء الفترة التي قضاها في مصر، فهو "من القلائل الذين أتيح لهم السفر إلى مصر أيام الباشا عباس، فقد مضى ليدرس الأزهر، وإن كان متقدّماً في العمر قليلاً؛ إذ لم يتمكن من ذلك أيام محمد علي، وطبعاً لم يتمكن من الحصول على العالمية، ولم يتمكن من الحصول على أيّة إجازة علمية من الأزهر، فقد انشغل بمصاحبة أولئك الذين رجعوا من فرنسا يتحدثون في انبهار عمّا رأوه هناك". 

اقرأ أيضاً: رواية الطباخ: فن طهي أزمات السياسة وتناقضات الاقتصاد
ورغم الاختلاف الجذري بين شخصية حسن الآغا وشخصية الشاويش أبو حسان، إلا أنهما يشتركان في ماضيهما "الأسود"، من وجهة نظر العامة، ومن وجهة نظر السلطة العثمانية، ومن وجهة نظر رجال الدين، وعلى رأسهم الحجي سليم؛ فحسن آغا كان قد ضحى بولديه، عندما دفعهما للقتال مع الباشا المصري ضدّ السلطان العثماني، وقتلا في المعركة، إلا أنّ صراع حسن الآغا "الفكري"، مع المجتمع ورجال الدين المتشددين، يظلّ مستمراً، كما أنّه يورّط نفسه في استضافة رجل إيطالي، يدعى برناردو، ملاحق من قبل سلطة مستبدة في بلاده، كما أنّه ملاحق من الخديوي المصري في مصر.

الروائي السوري خيري الذهبي
ومن خلال هذه الشخصيات، وشخصيات أخرى في الرواية، تتوالد الحكايات التي تلقي الضوء على تخبط المجتمع وانشغالاته في تلك المرحلة، وكيف كانت الأساطير والخرافات، إلى جانب التشدّد الديني، تسيطر على تفكير الناس غير القادرين على الخروج خارج ثنائية ضرورة طاعة الحاكم العثماني من جهة، والخوف من أيّ فكر أو علم خارج عن نطاق الدين والشريعة وتكفيره من جهة أخرى.

كأنّ المرحلة التاريخية التي اختارها الروائي مسرحاً لأحداث روايته تتقاطع اجتماعياً وثقافياً مع الحاضر

وهذا التشدّد الديني، المرافق للتخلف وانغلاق المجتمع على نفسه، كان ينعكس على عدم فهم أيّ تغيير يحدث؛ من قتل أفراد المجتمع، بمباركة من رجال الدين، للأطفال حديثي الولادة، أو إرجاع تأخّر هطول المطر والقحط والجفاف على أنّه غضب من الربّ.
ومن الأشياء اللافتة في الرواية؛ الإضاءة على المورثات الثقافية للمجتمع السوري أو للمنطقة، من خلال شخصية حسن الآغا، الذي يعدّ نفسه من المتمردين على الموروث الثقافي الديني، وضدّ التشدد الديني، إلى جانب أنّه أفنى جزءاً من حياته في جمع الكتب الفرنسية، والتي بسببها ضيّع ثروته "كُتب أنّه كان يقرأ فيها لفولتير وديدرو ومونتسكيو، صحيح أنّه لم يفهم الكثير مما يقال، ولكن الحماسة التي كانت تثيرها فيه، في هجومها على الملك الطاغية، والكنيسة الطاغية، ومن إلحاد مضمر، كان يشعره بأنّه أكبر من كلّ هؤلاء الذين حطَّ عليهم الزمان، فحوّلهم ما يرى ...".

اقرأ أيضاً: هكذا قاربت رواية "طرق الرب" طُرق البيروقراطية المقدسة
إلا أنّ وجود شخصية مثل برناردو في الرواية، كانت بمثابة المرآة لكلّ التناقضات التي كانت تحدث في تلك الفترة؛ فبرناردو لم يكن وجوده في "الشام شريف" وقتها، جزءاً من البعثات النمساوية والفرنسية والأوروبية التي كانت إحدى تبعات صراع إبراهيم باشا مع الدولة العثمانية، والتي كانت من تبعات معاهدة لندن أيضاً، بل كان؛ أي برناردو، ضدّ السلطات الدكتاتورية والتسلط الديني المتمثل في الكنيسة في بلاده؛ إذ كان على معرفة دقيقة بتاريخ المنطقة وبعلمائها وكتّابها، من رواة ومسرحيين، وكان على علم بوجود المسرح والكوميديا في بلاد الشام منذ زمن بعيد، وهذا ما كان يجهله حسن آغا نفسه.

يعود خيري الذهبي بنا إلى زمن الاحتلال العثماني لسوريا
أما شخصية الفتاة الشابة، أروى، ابنة حسن آغا، فقد مثلت الروح الحقيقية للتمرد على المجتمع الديني وعاداته وتقاليده، أكثر من أبيها؛ فمحاولاتها لتعلّم الرسم من خلال مراقبة برناردو سرّاً وهو يرسم، ومن خلال تأمّل لوحاته، كانت لا تعبّر من خلال رسوماتها، وبمرحلة لاحقة لعب دور الرجل أو المرأة اللعوب من خلال التمثيل المسرحي، إلا تعبيراً صادقاً عن الحياة التي لا تستطيع ممارستها داخل مجتمعها، فكانت ممارسة الفنّ بمثابة الخلاص بالنسبة إليها؛ فاللوحة التي رسمها برناردو للإنسان الكامل، قبل أن يشطر إلى ذكر وأنثى، بحسب ما تروي بعض الأساطير، رآها حسن آغا على أنّها تجسد شخصية الشيطان.

اقرأ أيضاً: شعرية الأعماق في رواية "بأي ذنب رحلت؟" للكاتب محمد المعزوز
أما أروى فلم ترَ فيها سوى الجمال المكتمل للإنسان، لا بل وحاولت إعادة رسمها بشكل أكثر جمالاً.
وكأنّ تلك المرحلة التاريخية في سوريا، والتي اختارها الروائي، خيري الذهبي، مسرحاً لأحداث روايته، تتقاطع بتخبطاتها الاجتماعية، وفي الصراع عليها إقليمياً ودولياً، بما يحدث في الحاضر، من صعود لحركات دينية متطرفة من جهة، وصراعات سياسية من جهة أخرى، وحرب إقليمية دولية في المكان نفسه، لكن بعد مضيّ قرنين من الزمن.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية