تونس في عين العاصفة الليبية: ماذا بعد زيارة سعيّد لباريس؟

تونس في عين العاصفة الليبية: ماذا بعد زيارة سعيّد لباريس؟


25/06/2020

في أوّل جولةٍ رسميةٍ له، يؤدي الرئيس التونسي، قيس سعيّد، زيارة رسمية إلى فرنسا، الشريك الاقتصادي الأول لتونس، بدعوة من الرئيس إيمانويل ماكرون، بعد أيّام من سقوط لائحة تطالب فرنسا بالاعتذار عن الحقبة الاستعمارية، بطلب من ائتلاف الكرامة اليميني المحافظ، وفي ظلّ وضع إقليمي مهتز يحرّكه فتيل الأزمة المستمرة في ليبيا منذ أعوام، وسط مساعٍ دولية كبيرة لاحتواء الصراع بين طرفَي النزاع فيها.

الدبلوماسي السابق عبد الله العبيدي لـ"حفريات": على قيس سعيّد أن يعدّ أوتاره داخلياً قبل بحث الملف الليبي إقليمياً

وتعدّ الزيارة بداية فعلية لدبلوماسية سعيّد، يدخل بها، للمرةٍ الأولى، مرحلة المصالح، خاصّةً أنّه لم يجرِ زيارات دولة منذ توليه الرئاسة، في تشرين الأوّل (أكتوبر) الماضي؛ إذ اضطرّ فقط إلى زيارةٍ إلى سلطنة عمان، للتعزية في وفاة السلطان قابوس، وذلك بعد أن راجت اتهامات على مواقع التواصل الاجتماعي بأنّه لا يريد السفر، أو يخاف ركوب الطائرة، إلى جانب زيارةٍ خاطفةٍ إلى الجزائر لتهنئة الرئيس الجديد، عبد المجيد تبون، بمهامه.

وكما كان متوقّعاً، مثّل الملف الليبي الطبق الرئيس بين إيمانويل ماكرون وقيس سعيّد، خصوصاً أنّ باريس وتونس تتعاونان في مجلس الأمن الدولي، ما قد يعطي أهميةً أكبر للدور الذي يمكن أن يلعبه الأخير في ضبط الحرب الدائرة وتسهيل الحوار.

هل تحافظ تونس على حيادها؟

زيارة تتزامن من حيث التوقيت، مع تحرّكات سياسية متسارعة في المنطقة، أملتها التطورات غير المسبوقة في ليبيا، التي ترافقت مع توتر متصاعد بين تركيا وفرنسا، أخذ أشكالاً مُتعددة، إثر قيام أنقرة بعمليات تنقيب عن الغاز شرق المتوسط، وكذلك إثر ارتفاع الحضور العسكري التركي في ليبيا.

اقرأ أيضاً: إخوان ليبيا يهاجمون الرئيس التونسي لهذه الأسباب.. ماذا قالوا؟

فأنقرة تبحث مع حكومة الوفاق إمكانية استخدام تركيا لقاعدتين عسكريتين في ليبيا، سعياً لوجود تركي دائم في منطقة جنوب المتوسط، فيما تراهن باريس على الجنرال خليفة حفتر (رجل شرق ليبيا القوي)، للقضاء على التيارات المتشدّدة التي تخوض حرباً معها في باقي دول المنطقة على غرار مالي.

ورغم أنّ سعيّد تمسّك خلال كلمةٍ ألقاها في المناسبة؛ بأنّ تونس لا تقبل بتقسيم ليبيا، وهي مع الوقف الفوري لإطلاق النار، وعدم تدخّل أيّة جهة أجنبيّة، إلا أنّه شدّد في المقابل على أنّ السلطة الحالية في ليبيا " شرعيّة مؤقّتة لا يمكن أن تستمر ويجب أن تحلّ محلّها شرعيّة جديدة".

اقرأ أيضاً: هذا ما قاله الرئيس التونسي عن حكومة الوفاق والأزمة الليبية

ويتوقّع المحلل السياسي، محمد بوعود، ألّا يكون لتونس دور قوي في الملف الليبي؛ لأنّ الرّئيس قيس سعيّد سيواصل الاحتكام إلى الشرعية الدولية، وسينتظر ما سيؤول إليه الوضع وما ستقرره الدول الفاعلة حقاً في ليبيا ليمتثل إليه، خاصّةً أنّ اللاعبين في الملف الليبي هم أطراف دولية نافذة، ولا يمكن لتونس أن تكون وازنة ضمن هذه المجموعات القوية.

اقرأ أيضاً: هل تحمل زيارة الرئيس التونسي لفرنسا رسالة إلى تركيا؟

من جانبه، رأى الدبلوماسي السابق، عبد الله العبيدي، في حديثه لـ "حفريات"؛ أنّ رسم السياسات الداخلية والخارجية لأيّة دولة لا يمكن أن يبنى على خطابات أو تحدده بيانات استعراضية؛ بل يجب أن يستند إلى جملةٍ من المعطيات، منها، بشكلٍ خاصٍ، التوازنات الدولية، والمصلحة الوطنية، معتبراً أنّ تونس لا تستطيع أن تتخذ موقفاً واضحاً تجاه الملف الليبي؛ فهي لا تتمتع بوزن ذاتي كبير تفرضه على محيطها الجغرافي والإستراتيجي.

وذكّر العبيدي بأنّ ليبيا هي المتنفس الاقتصادي والتشغيلي لتونس، مشدّداً على ضرورة أن تبحث البلاد عن شبكة حلفاء تنسجم مع القسط الأوفر من مصالحها لتثمين موقعها الإستراتيجي وخدمة مصالحها، خاصّةً أنّ موقعها الجغرافي مهمّ جداً.

السفير السابق لفت، في سياقٍ متصلٍ، إلى أنّ الرئيس التونسي يلعب في بحرٍ جيوستراتيجي، تتلاطمه الأمواج، غير قادرٍ فيه على اتّخاذ موقفٍ خاصٍ به، غير مواصلة سياسة الحياد، خاصّةً أنّ حركة النّهضة ذات الأغلبية البرلمانية، تدعم المحور التركي، مضيفاً أنّ على سعيّد أن يعدّل أوتاره داخلياً، قبل أن يتورّط في محاور اضطرارية.

تونس تتقاذفها الاستقطابات الإقليمية

هذا وترتبط تونس مع باريس بشراكاتٍ اقتصادية قوية وتنهل من الوجود الفرنسي القوي في المنطقة، كما أنّ شراكاتها مع أنقرة توسّعت كثيراً بعد الثورة، خصوصاً مع صعود الإسلاميين إلى الحكم، وباتت هي الأخرى حليفاً استراتيجياً لا يمكن الاستغناء عنه، ما يضع تونس في مفترقٍ صعبٍ، اختارت فيه مسايرة البلدين لضمان مصالحها، والحفاظ على ما تبقى من استقرار ليبيا.

جمعي القاسمي: تونس ممزقة بين التوجه الفرنسي وبين الإكراهات الداخلية التي تمارسها "النّهضة" والتي تدفع بالبلاد نحو الحلف التركي

وترتبط تونس مع أنقرة باتفاقية للتبادل الحرّ، فيما تدفع أطراف في الحكومة التونسية لتمرير مشروع جديد يخصّ تفعيل اتفاقية لحماية الاستثمارات بين تركيا وتونس، خاصةً أنّ تركيا ترغب، وفق تصريحات رسمية، بوصول التبادل التجاري مع تونس إلى ملياري دولار، بدل مليار دولار، مسجل حالياً.

في المقابل، تعدّ فرنسا الشريك التجاري الأول لتونس داخل الاتحاد الأوروبي، رغم أنّ الأرقام الفرنسية الرسمية تبيّن أنّ هناك تراجعاً طفيفاً في نسبة الصادرات الفرنسية إلى تونس وباقي دول المغرب العربي.

هذا ولا يمكن صرف النظر عن الحضور التاريخي لكلّ من تركيا وفرنسا في المنطقة، ما جعل الصراع بينهما على النفوذ فيها صراع تاريخي، سواء كان في الكواليس أو بشكل مفتوح، كما يحدث في ليبيا، وأنّهما هما اللتان تداولتا على استعمار تونس، لأعوام، لكنّهما ظلتا حليفتين إستراتيجيين، سواء اقتصادياً أو سياسياً للبلاد، ولا تبدو البلاد مستعدّة لخسارة إحداهما.

اقرأ أيضاً: تونس: حل 42 جمعية ومقاضاة 400 على صلة بالإرهاب... ما موقف النهضة؟

ورغم أنّ تركيا سبقت فرنسا في التحرّك لاستقطاب تونس إلى المحور القطري – التركي، خلال زيارة أردوغان إلى تونس، والتي رافقها غضبٌ شعبي كبيرٌ لإمكانية تقارب وجهات النظر الرسمية بينه وبين الرئيس التونسي، حول إمكانية تسهيل التدخّل العسكري التركي، إلّا أنّ تونس حافظت على حيادها، وظلّت وفيةً للدبلوماسية التقليدية كحلٍّ أسلمٍ.

من جانبه، حرص الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، على أن تكون أول زيارة عملٍ للرئيس التونسي الجديد، قيس سعيّد، إلى فرنسا؛ إذ كثّف اتصالاته معه، وأرسل له سابقاً وزير خارجيته، رغم القرار التونسي بسحب السفير الفرنسي وعدم تعويضه إلى حدود اللّحظة، كما كان حريصاً على الاتصال بقيس سعيّد إبّان قمّة برلين حول ليبيا، للتعبير عن أسفه لعدم حضوره القمة.

كما يبدو واضحاً، بحسب المحلل السياسي، جمعي القاسمي، أنّ تونس دخلت دائرة الاستقطاب الإقليمي؛ إذ يحاول كلّ طرفٍ جرّها إلى محورٍ دون الآخر، نظراً لأهميّة موقعها المجاور لليبيا.

وأكد القاسمي في تصريحه لـ "حفريات"؛ أنّ تونس ممزقة اليوم بين التوجه الفرنسي من ناحيةٍ، والإكراهات الداخلية التي تمارسها حركة النّهضة الإسلامية كحزبٍ أغلبي، والتي تدفع بالبلاد نحو الحلق التركي، لافتاً إلى أنّ سعيّد يبدو، إلى حدّ اللحظة، متمسكاً بموقف تونس السياسي، الذي ينصّ على ضرورة أن يكون الحلّ ليبياً – ليبياً، بعيداً عن التدخلات العسكرية.

اقرأ أيضاً: حين هتف النقابيون في تونس: "يا غنوشي يا سفاح"

ودعا القاسمي الرئيس التونسي، الذي قال إنّه بدأ يمشي على حبل التناقضات بين المشروعين التركي والفرنسي، أن يختار الطريق السليمة التي تراعي مصالح تونس، وهي دون شكّ خارج الحلف الإخواني، الذي يمارس دوراً تخريبياً في المنطقة.

هل يكون الحياد الحلّ الأسلم

ورغم أنّ الأزمة الليبية تطأ بثقلها على تونس التي تتشارك مع ليبيا 500 كلم من الحدود، وتستضيف منذ عام 2011 عشرات الآلاف من الليبيين، فإنّ الرئيس التونسي، قيس سعيّد، لم يشذ قبل هذه الزيارة عن الحياد التونسي السلبي تجاه الأزمة الليبية منذ بدايتها، والذي فرض عدم التدخل عسكرياً، والاكتفاء بالتدخل الإنساني وطرح المبادرات السياسية الرامية لإيجاد حلول سلميةٍ.

فمن المنصف المرزوقي (2011-2014) إلى الباجي قايد السبسي (2014 – 2019)، وأخيراً الرئيس الحالي، قيس سعيّد، لم تختلف مداخلات الرؤساء بمنطوقها أو فحواها، واقتصرت جميعها على أنّ "أمن تونس من أمن ليبيا"، و"نقف على مسافةٍ واحدةٍ من كلّ الأطراف"، و"الحلّ يجب أن يكون (ليبياً – ليبياً)".

قال الدبلوماسي السابق، أحمد ونيس، في حديثه لـ "حفريات": إنّ تونس اختارت موقف الحياد، وستظلّ عليه، باعتباره الموقف "الصحيح"، وفق تعبيره، كما أنّه سبيل النجاة ليس من أجل تونس فقط، بل من أجل الدولة الليبية المستقبلية، لأنّه مبني على احترام السيادة الليبية والاعتراف بوحدة التراب الليبي.

وزير الخارجية الأسبق توقّع أيضاً ألا تغيّر تونس موقفها من القضية الليبية، إلّا في حال تغيّر الوضع الميداني بشكلٍ كامل، وحسم أحد الطرفين المعركة، أما في الوضع الحالي فإنّها ستبقى ثابتة عند مواقفها وحيادها.

ورجّح ونيس أن يحاول سعيّد تمرير الحل التفاوضي، خلال لقائه بماكرون، لأنّه لا حلّ في ليبيا إلّا عبر الحوار، وإذا أدرك هذا فستكون تونس قد مهّدت إلى إعادة البناء والإعمار في ليبيا وإعادة السيادة لليبيين.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية