بين حكيم حرب و"فوتوكوبي"

بين حكيم حرب و"فوتوكوبي"


19/04/2018

فيما كنت أخرج من صالة السينما، بشحنة وجدانية عالية بعد مشاهدة فيلم "فوتوكوبي" للنجم المصري محمود حميدة والمخرج تامر عشري، كان ثمة حوار يدور في ذاكرتي ذات لقاء بالمخرج حكيم حرب. كنا آنذاك قد تناقشنا في مدى جدوى عمل فني ما، لا يفهمه سوى طاقمه، بذريعة كونه نخبوياً.

وكان حرب، الذي يعمل مخرجاً وممثلاً منذ مطلع التسعينيات، متفقاً معي في هذه النقطة، وأخال أنّه قد ترجم هذا، قبل نقاشنا بوقت طويل، حين أسس لمبادرات مسرحية في القرى والمناطق النائية، وحين دخل عالم السجينات والمحكومات بالإعدام والمؤبد من خلال المسرح، الذي كنّ هنّ بطلاته!

تداعى ذلك كلّه في ذهني، فيما كنت أتساءل: هل يجب أن تكون هناك أسباب عظيمة جداً، لأقول عن عمل فني ما إنّه آسر؟

إذا ما كان الحديث عن "فوتوكوبي"، الذي ألّفه هيثم دبور، فالإجابة حتماً لا؛ ذلك أنّ الفيلم لم يلبس لبوساً أكبر منه، ولم تسبق عرضه ادعاءات ضخمة ولا "تريلر" ساحق ماحق يظهر فيه أنّ الموضوع المزمع مناقشته خطير وطارئ؛ بل كان كل شيء، بدءاً من "التريلر" مروراً بالسينوغرافيا وليس انتهاء بالثيمة، غاية في السلاسة، إلى حد يمكن فيه القول إنّه كان محض مغازلة للزمن الجميل والحب المفتقد.

الفيلم لم يلبس لبوساً أكبر منه ولم يسبق عرضه تريلر يظهر فيه أنّ الموضوع المزمع مناقشته خطير وطارئ

وهو في هذا لا يختلف عن أفلام رائقة أنيقة هادئة ظهرت في الأعوام الأخيرة وسط لجة أفلام الحركة والرعب والتهريج، كان منها "تايه في أمريكا" و"شقة مصر الجديدة" و"رسائل البحر" و"ملك وكتابة" وغيرها القليل.

في الأعوام الأخيرة، كان متابع السينما المصرية، ومعظم النتاج الفني العربي، يشعر كأنما انتقلت سحب الدخان وعوادم المركبات وغبار القذائف إلى داخل صالات العرض؛ إذ هيمنت العشوائيات والحروب ضد الإرهاب والأجندات السياسية على الشاشة، إلى حد تم فيه تكريس هذا الجنون كله من حيث لا يعلم القائمون عليه، متناسين أنّ الحكايات الإنسانية والعاطفية الهادئة الرائقة، بلا وعود ضخمة وكليشيهات، هي كلمة حقيقية ضد الموت المتفشي.

من هنا، كانت أهمية استذكار الحوار الآنف مع حرب، الذي اختار على مدار سنوات عمله ثيمات إنسانية عميقة، برغم قالبها المستند في العادة للأسطورة التاريخية والأدبية، ما يجعل المتلقي يتوق لنسخة أبسط يشاهد من خلالها عملاً فنياً لحرب، يتحدث عن حكاية يومية دافئة، بلا قوالب ضخمة ونخبوية، وأحسب أنه واحد من بين الأقدر على هذا؛ ذلك أنه من خلفية ريفية وادعة؛ إذ هو من قرية نابلسية على قدر مدهش من الجمال اسمها قريوت، بالإضافة إلى كونه نشأ في بيت فلسطيني تقليدي في مدينة الزرقاء الأردنية، التي تشبه لوحة الموزاييك في تشكيلاتها البشرية المتنوعة، عدا عن كونه يخفي رهافة مستفحلة وشجناً عالياً وراء غلالة رقيقة من الجدية والصرامة، كما أنّ دعابته حاضرة دوماً على رأس لسانه، حتى وإن كان ينتقد ما حوله بشراسة، لكنها أقرب لكوميديا البريطانيين السوداء.

تفتقد الساحة الفنية المصرية والأردنية والعربية أعمالاً دافئة وادعة مثل؛ "فوتوكوبي" الذي يتناول حكاية حب طريفة بين جارين متقدمين في السن، يعانيان من قسوة إيقاع الحياة السريع حالياً.

تفتقد الساحة الفنية المصرية والأردنية والعربية أعمالاً دافئة وادعة مثل فوتوكوبي

براعة حميدة في التمثيل، والموسيقى التصويرية المنتقاة بعناية، وخفّة ظلّ الحكاية رغم شجونها، حالت دون الوقوف طويلاً لدى أسئلة من قبيل: على الرغم من أداء شيرين رضا المتمكن لشخصية المسنة، لكن ما ضرورة أن تكون هي، وليست ممثلة بعمر متقدم فعلاً؟ ولماذا استعيض عن أحداث كثيرة بتلخيص مقتضب لها على لسان الشخصيات؟ ولماذا النمطية التي ظهرت في تناول وحدة المسنين وأمراضهم المزمنة وعقوق أبنائهم؟

يرفع المتلقي القبعة للقائمين على دور العرض السينمائية التي رحبت بالفيلم في صالاتها، رغم قلة الحضور لأفلام هادئة رقيقة من هذا القبيل. ويرفع المتلقي قبعة أخرى للقائمين على الفيلم، حيث بدا التنافس المادي المحموم والنزعة التجارية خارج حساباتهم.

وقبعة ثالثة أرفعها لحكيم حرب، على النقاش الآنف، الذي فتح آفاقاً للتفكير في معيار تقييم عمل فني ما ومدى نجاحه فعلاً وقربه من المتلقي، بعيداً عن عائلات الفنانين وأصدقائهم ومن يأتون لعمل نخبوي لا يفهمون طلاسمه

فيغرقون في النوم حتى ينتهي العرض وتضاء الصالة. أظنّ أنّ نقاش حرب وفيلم "فوتوكوبي" أتيا بالتزامن؛ ليكمل بعضهما بعضاً.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية