الميليشيات المسلحة في ليبيا: تآكل الدولة والسيادة وانسداد الآفاق

ليبيا

الميليشيات المسلحة في ليبيا: تآكل الدولة والسيادة وانسداد الآفاق


06/01/2020

تمتد شبكة معقدة من الميليشيات والتنظيمات المسلّحة في ليبيا، منذ سقوط نظام العقيد معمر القذافي، قبل ثمانية أعوام؛ إذ تعرضت خلالهم ليبيا إلى السقوط في فخّ التدخلات الإقليمية والدولية، ومحاولات فرض الهيمنة والنفوذ بالمال والسلاح، إثر ما شهدته المنطقة العربية من تغييرات جمّة، إبان ما عرف بـ "الربيع العربي"، وكذا، التحولات في المواقف والمصالح الإقليمية، ما ترتّب عليه، صعود موجات من العنف، وانسداد الحل السياسي، مما أفضى إلى مواجهة مستقبل قلق، ينذر بنتائج ومآلات متباينة.

 

ليبيا.. قلق في المستقبل
في النصف الثاني من العام الحالي (2019)، بلغ المشهد الليبي ذروة انفلاته وتعقيداته، التي عكست حجم الأدوار الخفية والمستترة إقليمياً، خاصة بعد توقيع الاتفاق الأمني والبحري، بين حكومة طرابلس الليبية وتركيا، ومن ثمّ دخول الجيش الليبي في صدامات مباشرة مع الميليشيات المدعومة من أنقرة، حتى إنّ الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، أعلن عن زيارة وفد تركي لروسيا، مؤخراً، لمناقشة بعض القضايا الإقليمية، ومن بينها إرسال قوات تركية إلى ليبيا.

باحث مصري لـ "حفريات": لا أعتقد أنّ هناك قدرة لأيّ من أطراف النزاع في ليبيا على حسمه عسكرياً

وفي تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، أوضحت منظمة العفو الدولية، في تقرير لها؛ أنّ الأطراف المتحاربة في القتال الدائر من أجل السيطرة على طرابلس، مسؤولة عن قتل وإصابة عشرات المدنيين، عبر شنّ هجمات من دون تمييز، واستخدام عدد كبير من الأسلحة المتفجرة غير الدقيقة، في المناطق الحضرية الآهلة بالسكان.
وبحسب برايان كاستنر، كبير مستشاري برنامج الأزمات، المختص بالأسلحة والعمليات العسكرية: "قتل وأصيب عشرات المدنيين نتيجة لجوء كلا الطرفين لاستخدام كلّ أنواع الأسلحة، من الصواريخ غير الموجهة التي تعود إلى عهد القذافي، مروراً بالصواريخ الموجهة التي تلقى من طائرات مسيرة، وذلك في هجمات تعدّ بمثابة جرائم حرب".

اقرأ أيضاً: هل يطالب أردوغان بإنشاء "منطقة آمنة" في ليبيا؟

كما تفيد إحصاءات الأمم المتحدة بأنّ القتال على مدار الشهور الستة الماضية، قد أسفر عن مقتل وإصابة ما يزيد عن 100 مدني، بينهم عشرات المهاجرين واللاجئين الذين كانوا معتقلين، إضافة إلى تشريد أكثر من 100 ألف شخص، وقد أصابت الضربات الجوية ووابل نيران المدفعية والقصف المدفعي عدداً من منازل المدنيين ومرافق البنية الأساسية، ومن بينها عدة مستشفيات ميدانية ومدرسة، ومركز لاحتجاز المهاجرين، كما أدّت إلى إغلاق مطار "معيتيقة"، وهو المطار الدولي الوحيد العامل في طرابلس.

 

الميليشيات في ليبيا
توسعت الميليشيات المسلّحة في ليبيا، بينما أضحت بعض المدن، لا سيما طرابلس، حاضنة للمنظمات الجهادية والمتشددة، والتي من بينها مجموعات تنتمي إلى الإخوان المسلمين، إضافة إلى أطراف أخرى متباينة تتبنى الفكر السلفي الجهادي، وتتصل بتنظيم القاعدة أو داعش.

اقرأ أيضاً: "إخوان" ليبيا وفوبيا الجيش
ففي مدينة درنة؛ انتشرت كتيبة "عقبة بن نافع"، إضافة إلى كتيبة "أنصار الشريعة"، والأخيرة كان لها نفوذ مماثل، في بنغازي، شمال شرق ليبيا، وهناك ميليشيا "درع ليبيا" التي تعد أحد أجنحة جماعة الإخوان المسلمين المسلّحة والعسكرية؛ حيث تتمركز في مدينة مصراتة، كما تضمّ ثلاثة ألوية، تغطي كافة الأطراف الجغرافية للمنطقة التي تخضع لسيطرتها.
وتشير منظمة العفو الدولية إلى أنّ الهجمات التي نفذتها تلك الميليشيات والكتائب المسلّحة، إنّما تمثل انتهاكاً للمبادئ الأساسية للقانون الدولي الإنساني، ووصفتها بأنّها بمثابة جرائم حرب؛ إذ وثقت لحالات تواجد فيها مقاتلون داخل منازل مدنيين، ومنشآت طبية، أو بالقرب منهما، مما عرّض حياة المدنيين للخطر.

ارتباط حكومة الوفاق بميليشيات وتشكيلات عسكرية مسلحة مرتبطة بالتيارات الإسلامية، يجعل من قطر وتركيا أكبر داعم لها

ويعدّ تنظيم ما يعرف بـ "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش) ذا خطورة كبيرة، من ناحية تواجده في ليبيا، وتدشين فرع نشط له هناك، منذ تشكيله في تشرين الثاني (نوفمبر) العام 2014، ثم ظهور عدد من مقاتلي التنظيم، للمرة الأولى، في درنة، وهم يعلنون البيعة لزعيم التنظيم، وقتذاك، "أبو بكر البغدادي"، وسيطرت داعش على ثلاث مناطق، هم: برقة في الشرق، وفزان في الصحراء جنوباً، وطرابلس في الغرب.
ومن جانبه، يوضح مايكل ناغاتا، مدير المركز الوطني لمكافحة الإرهاب، في تحليل نشرته مجلة "التايم" الأمريكية، إبان مقتل البغدادي، ورصد تبعات ذلك على التنظيم، ونشاطه الإرهابي؛ بأنّ مقتل البغدادي أمر مهم ومرحَّب بحدوثه، إنّما لا يشكّل ضربة نهائية وحاسمة، سواء لفروع داعش في ليبيا، أو دول شرق وجنوب آسيا، وسريلانكا، والصومال، والقوقاز.
ورأى ناغاتا؛ أنّ التنظيم سوف يعتمد إستراتيجية "الذئاب المنفردة"، ومن ثمّ تنفيذ ضربات مفاجئة يستهدف من خلالها الجيش الليبي، في المقام الأول.

 

داعش وموسم الذئاب
ويرى محللون وخبراء في شؤون الإرهاب والأمن القومي؛ أنّ جنوب ليبيا سيكون البوابة التي يعاود من خلالها التنظيم الإرهابي نشاطه وعملياته؛ حيث بثّ التنظيم في أحد إصداراته المرئية، فيديو لمجموعة من مقاتليه، وهم يجددون البيعة لزعيم التنظيم الجديد، وشهد الأسبوع الأول من الشهر الجاري، تنفيذ التنظيم لتهديداته؛ إذ قاموا بذبح مواطنين ليبيين، من بينهم عاملون في الحكومة، بإطلاق الرصاص عليهم في منطقة الفقهاء، جنوب ليبيا.

اقرأ أيضاً: القرصان التركي في ليبيا
ويشير الباحث التونسي، المتخصص في شؤون الإسلام السياسي، باسل ترجمان، إلى أنّ الوضع في ليبيا رغم صعوبته، إنما يسير نحو تحقيق الجيش الوطني الليبي للحسم العسكري الذي قد يحتاج لبعض الوقت، لكنّ استمرار الوضع على ما هو عليه يبدو أمراً مستحيلاً، وما يزيد من إطالة أمد الأزمة هو التدخل الإقليمي الداعم للفوضى والإرهاب، ممثلاً في الدور القطري والتركي، عبر دعمهما للميليشيات والجماعات المتطرفة، في الغرب الليبي، بالمال والسلاح، فضلاً عن نقل مئات الإرهابيين من شمال سوريا أو المتواجدين في الأراضي التركية إلى ليبيا، بهدف دعم جهود الميليشيات المتحالفة مع حكومة السراج، لمواجهة الجيش الوطني الليبي.  

اقرأ أيضاً: الكشف عن أسرار اتفاقية أردوغان- السراج يُحوّل ليبيا إلى بلد مُحتل
ويضيف لـ "حفريات": "التهديد التركي للأمن والسلم الدوليين، في حوض البحر المتوسط، صار واضحاً للجميع، وواجب التصدي له لا ينبغي أن يكون على المستوى العسكري فقط؛ لأنّ مراقبة منطقة واسعة جداً، تمتدّ من شواطئ تركيا إلى غرب ليبيا، أمر عسير، خاصة في منطقة تشهد مرور آلاف السفن، بصورة يومية، وتشكل أحد أهم مراكز التجارة الدولية في قلب العالم القديم".

اقرأ أيضاً: تقرير يكشف دور التحالف القطري التركي في ليبيا
وبسؤاله عن طبيعة التدخلات الإقليمية التي تسعى نحو اتساع رقعة الصراع، بهدف النفوذ السياسي، والسيطرة على الأرض، وتحقيق الهيمنة الاقتصادية؛ إذ تجمع ليبيا بمحيطها، عدة روابط إستراتيجية مؤثرة، تتصل بالإرهاب والأمن والطاقة وتأثيرات الجغرافيا، أجاب ترجمان: "من المهم أن تتم مواجهة الأطماع الهيستيرية لتركيا بالثروات المكتشفة في البحر المتوسط سياسياً،؛ لأنّ أردوغان يريد تعويض فشل مشروعه الاقتصادي الذي بنى عليه حكمه، في الأعوام الماضية، بتكرار منهج العثمانيين، عبر الغزو ونهب ثروات الدول التي يريد إعادتها تحت سيطرة دولة الخلافة المزعومة، وفيما يبدو أنّ أول الصاغرين لهذا المشروع، هو رئيس الوزراء الليبي، فايز السراج، الذي تنازل عن جزء كبير من سيادة دولته، لإرضاء أوهام أنقرة، عبر اتفاق غير شرعي.         
الطاقة والإرهاب... استنزاف وحرب بلا أفق!
لكنّ الأوضاع الحالية في ليبيا، بحسب الباحث التونسي، سوف يمتدّ تأثيرها على أمن واستقرار دول الجوار، خاصة أنّ الإرهاب الذي يتمّ تجميعه في مناطق الغرب الليبي، وإعادة بناء التحالفات بين الجماعات الإرهابية في ليبيا وشمال مالي، ستكون له انعكاسات جمة على كلّ دول المنطقة من جهة، وكذا الدول الأوروبية المطلة على جنوب المتوسط، من جهة أخرى، والأخيرة تعاني من تدفق موجات هجرة كبيرة، تسهلها عصابات الاتّجار بالبشر، في جنوب وغرب ليبيا، باعتبارها ورقة ضغط سياسي يستعملها أردوغان ضدّ الاتحاد الأوروبي.

اقرأ أيضاً: ما رسالة داعش من إصداره الأخير في ليبيا؟
ومن جهته، يرى الباحث المصري، المتخصص في الشأن الليبي، عبد الستار الصقراوي، أنّ أفق المصالحة في ليبيا ليس واقعاً راهناً، ولا يبدو أنّ هناك مؤشرات على حدوث مصالحة وطنية قريبة، خصوصاً مع مراوحة النزاع الدائر بين حكومة الوفاق وقوات الجيش الوطني الليبي مكانه، دون قدرة أيّ من الطرفين على حسمه عسكرياً، ما يعني مزيداً من إهدار الطاقات، واستنزاف الثروات، وهدر الوقت في النزاع، إضافة إلى تغذية أطراف دولية وإقليمية لشركائها في الداخل الليبي، وهو ما يجعل ليبيا ساحة للنزاع بالوكالة.

 


ويضيف لـ "حفريات": "لا أعتقد أنّ هناك قدرة لأيّ من أطراف النزاع في ليبيا على حسمه عسكرياً، وهو ما يعني استمرار رحى الحرب لجولات أخرى، قد تطول ولن تنتهي في القريب العاجل، ما يعني مزيداً من الضحايا والخسائر المادية والعسكرية".

 

اقرأ أيضاً: داعش ليبيا.. سيناريوهات ما بعد مقتل البغدادي
وبسؤاله عمّا إذا كانت هناك مصالح إستراتيجية في ليبيا لتركيا وقطر، تجعلهما تصران على الدعم العسكري والمالي للميليشيات، قال: "هناك مصالح في ليبيا، تسعى إليها أنقرة والدوحة، ويمكن أن نرى مؤشراتها بوضوح في الدعم اللامحدود لحكومة الوفاق، إضافة إلى مصالح اقتصادية للدولتين في الداخل الليبي، تجعلهما تغذيان حلفاءهما في حكومة الوفاق، عبر فتح النوافذ الإعلامية أو السياسية، وتوقيع الاتفاقيات الأمنية والاقتصادية، كما حدث قبل نحو أسبوعين بين أردوغان والسراج".
ويختتم: إنّ "ارتباط حكومة الوفاق بميليشيات أو كتائب عسكرية مسلحة لها صلة عضوية بالتيارات الإسلامية، يجعل بالضرورة قطر وتركيا أكبر داعم لها؛ حيث إنّهما من أكبر المروّجين لتيارات الاسلام السياسي في المنطقة، بيد أنّ غاز المتوسط المكتشف سيفتح شهية تلك الدول للمزيد من فرض السيطرة؛ إذ إنّ النفط الليبي يعدّ أحد مطامع قطر وتركيا للتدخل الميداني والسياسي، وتوفير موارد الدعم العسكري والمالي للميليشيات الموالية لها".



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية