المناورات لا توقف تهاوي صورة النهضة

المناورات لا توقف تهاوي صورة النهضة


01/04/2021

مختار الدبابي

تداركت حركة النهضة الإسلامية تراجعها في المناطق الداخلية، وفازت بأغلب الانتخابات الجزئية البلدية التي جرت في ولايات (محافظات) مثل سيدي بوزيد وصفاقس والمهدية، وآخرها فوزها برئاسة محلية السرس من ولاية الكاف.

ويعزو المراقبون هذه النتائج إلى قدرة الحركة تنظيميا على التحرك في أي وقت قياسا بمنافسيها الذين لا يمتلكون تنظيمات دائمة يمكن أن يلجأوا إليها لخوض الحملات الانتخابية، خاصة أن جهودهم تتوقف مع صدور النتائج ويتفرقون في كل اتجاهات، فما يجمعهم هو التقاء موضوعي ظرفي في لحظة سياسية تحكمها رؤية سياسية ومصالح وعلاقات، على عكس النهضة التي تمتلك هيكلة واضحة منذ تأسيسها في يونيو 1981 وحتى ما قبله.

وهذا أحد أسرار محافظة النهضة خلال الانتخابات الثلاثة الماضية على حجمها في البرلمان كقوة أولى، وسر قدرتها على التجميع في المناسبات الاستعراضية مثل تظاهرة 27 فبراير الماضي. ولا يمكن أن يؤخذ فوزها بأغلبية الانتخابات الجزئية الأخيرة في بعض المحليات على أنه تطور في شعبيتها، وإذابة للجليد مع مجتمع ظل متخوفا من صعود الإسلاميين للسلطة بفعل تراكم في أخطائهم في عهد بورقيبة وبن علي ولجوئهم إلى العنف لمواجهة خصومهم، حتى وإن كان هذا العنف غير منظم ومتروكا لـ”تحرير المبادرة” الفردية.

تتقدم النهضة في الجهات لاعتبارات تتعلق بقوتها على الاتصال بالناس وتفرغ الكثير من عناصرها طول الوقت لهذه المهمة مستفيدة من ثقافة تقليدية داخل المناطق الداخلية تعطي اهتماما أكبر للتدين والمتدينين وتفترض فيهم النزاهة ونظافة اليد والخوف من الله.

ويمكن أن يفسر هذا الأمر إلى حد كبير أسباب محدودية تأثير مجموعات اليسار التونسي في المناطق التقليدية بالرغم من أن اليسار أقدم تاريخيا وممثل في الكثير من المؤسسات والجمعيات الثقافية والاجتماعية، ومكنه موقعه في الاتحاد العام التونسي للشغل من أن يلعب دور المدافع عن الفئات والقطاعات الهشة.

لكن نفوذ الإسلاميين في المناطق الداخلية في تراجع واضح، بقطع النظر عن الفوز في الانتخابات التي وصلت المشاركة فيها إلى نسب متدنية. ويعود السبب المباشر إلى فشل خياراتهم في الحكم ومردوديتها على المناطق الداخلية التي ما تزال في وضع سيء خاصة مع اهتراء البنية التحتية التي تم إنجازها في عهد بن علي بعامل الوقت والإهمال الحكومي.

اتخذ الإسلاميون موقف الحياد في المعارك الاجتماعية المهمة خاصة لدى فئات الشباب (الاحتجاجات الخاصة بالتشغيل في مواقع النفط والغاز والفوسفات، والمطالب الاجتماعية التي تتعلق بالتنمية المحلية).

وتريد حركة النهضة أن تلعب دورا مزدوجا، فهي مع الحكومة ومؤسسات الدولة كونها حزبا مشاركا في الحكم، وفي نفس الوقت تظهر دعمها للمطالب الاجتماعية للناس، لكنه دعم لا يتجاوز البيانات والتصريحات الهادفة لتسجيل الحضور، وهو ما أدى إلى بحث الشباب عن أطر جديدة لتبني مطالبهم ووجدوها آنيا في التنسيقيات التي تتشكل تحت مظلة الرئيس قيس سعيد، لكن حماسهم بدأ يفتر في ظل اكتفاء رئاسة الجمهورية بإطلاق الوعود وعجزها عن مغادرة مربع الحملة الانتخابية إلى فرض واقع خادم لمئات الآلاف من الشباب الذين انتخبوا سعيد واستمروا بالدفاع عنه في خلافه مع النهضة وبقية أحزاب الحكم.

وبالنتيجة، فإن مختلف الفاعلين السياسيين مازالوا يتعاطون مع أزمات الجهات بمنطق المعارضة الذي يركز جهوده على نقد الآخرين وتشويههم وتقديم نفسه كبديل، لكن حين تتاح له الفرصة يعجز عن مغادرة مربع المعارضة ولعب دور الحزب الحاكم الذي عليه توفير الخدمات والمشاريع للناس، بما يوفر مواطن عمل قارة، وعدم الاكتفاء بالدور الخيري القائم على توزيع المساعدات والهبات مجهولة المصدر على أنصاره وناخبيه.

وإذا كانت حركة النهضة تحافظ إلى الآن على نفوذها في مراكز ثقلها التاريخية خاصة في مدن وقرى الجنوب وفي مدينة صفاقس، فإن وزنها في العاصمة تونس بدأ بالاهتزاز لاعتبارات كثيرة أولها أن العاصمة هي مركز اللعبة السياسية، وكل الأحزاب تركز عليها وتسخر كل إمكانياتها وعلاقاتها والأموال التي تحصل عليها من هنا وهناك لإظهار تأثيرها وقوتها فيها، ما يجعل التنافس عليها كبيرا.

وفي انتخابات 2019، تراجعت نتائج النهضة بشكل واضح في مدن تونس الكبرى (العاصمة، وبن عروس وأريانة، ومنوبة) حيث تقلص عدد نوابها بالبرلمان في هذه المدن بشكل لافت، في مقابل صعود أسماء عرفت بعدائها للحركة الإسلامية.

ويكمن التفسير الأهم في تقلص نفوذ الإسلاميين في العاصمة إلى كونها مركز ثقل شبابيا كبيرا، حيث يتجمع فيها الآلاف من الشبان من أبناء الجهات الداخلية، خاصة ممن أنهوا دراستهم وتخرجوا في الجامعة، وبقوا في العاصمة بحثا عن مواطن عمل لوجود كبريات الشركات والمؤسسات فيها.

ومع توسع دائرة الأزمة السياسية، وفشل أحزاب الحكم منذ 2011 في تحقيق أي تقدم في ملف التشغيل، تحول خريجو الجامعات إلى قوة معارضة للسلطة، وبالنتيجة لحركة النهضة التي ظلت خلال عشر سنوات شريكا رئيسيا في الحكم وتتحمل في أذهان الناس فشل تجربة “حكومات الثورة” وعجزها عن توفير مواطن العمل والخدمات الضرورية.

وتاريخيا يكون سكان العاصمة، مركز الثقل السياسي، أقرب إلى معرفة تفاصيل معارك الأحزاب والكتل البرلمانية وفضائح الفساد والمحسوبية، وتنشط الإشاعات بشكل كبير وتتحول إلى مصدر خبر يشكل الرأي العام لفائدة هذا الحزب أو ذاك، مثلما يحصل الآن، حيث استفاد الرئيس قيس سعيد من الغضب الشعبي الواسع على منظومة الحكم وخاصة صورة البرلمان في زيادة شعبيته قبل أن يدخل بدوره دائرة التساؤلات في ضوء التسريبات والإشاعات عن التحالفات التي تجري من وراء الستار.

ويلعب الإعلام دورا كبيرا في خلق التوازنات السياسية وتحويلها إلى هذا الملف أو ذاك، ويمكن القول إن حركة النهضة هي الأكثر خسارة في معركة الإعلام بسبب رواج ملفات تتهمها بالفساد دون أن تقدر الحركة على نفي تلك الصورة بالرغم من تلويحها باللجوء إلى القضاء، في الوقت الذي تتحول تلك الصورة إلى أمر واقع سيكون له تأثير كبير في الانتخابات القادمة.

كما أن استمرار الأزمة السياسية، وخاصة المناورات التي تربح أصحابها الوقت على حساب استقرار البلاد وتعميق أزمتها الاقتصادية، يزيد في تراجع صورة الأحزاب الحاكمة وفي الواجهة حركة النهضة التي تتهم بإغراق البلاد في أزمة فراغ سياسي من أجل ربح معركتها مع قيس سعيد بشأن التأويلات الدستورية والفتاوى القانونية فيما الناس تنتظر توافقات سريعة تخرج البلاد من حالة الفوضى السياسية وتبحث عن حلول عاجلة للوضع الاقتصادي والاجتماعي.

وبدل البحث عن حلول للأزمات التي تحاصر البلاد تستمر حركة النهضة في لعبة المناورة دون وعي بالوقت الذي يستهدف تونس كما يستهدف صورة النهضة ذاتها في ضوء تهاوي شعبيتها وتراجع ثقة الشارع فيها.

عن "العرب" اللندنية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية