المشهد الإخواني في تونس.. أبرز معطيات سقوط حركة النهضة

المشهد الإخواني في تونس.. أبرز معطيات سقوط حركة النهضة


23/09/2021

تدافعت الأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية في تونس خلال السنوات القليلة الماضية، سواء ما يختص بأوضاع حركة النهضة تنظيميّاً، إثر قرارها خلال أعمال المؤتمر العاشر في العام 2016، بالاندماج كلية داخل معترك السياسة، ما أصابها بارتباك واضح داخل صفوفها، مع عدد من التصدعات بين قياداتها، وبدا أنّ التنظيم إزاء منعطف استراتيجي في مسيرته، سعى الغنوشي من خلاله نحو الاستبداد بالحركة، والهيمنة على كافة مفاصلها، وارتبط ذلك كله بتطور الأوضاع الداخلية في تونس، والصراع العنيف بين مؤسسات الحكم، وتفاعل ذلك مع كافة الاعتبارات الإقليمية والدولية، التي أفضت في النهاية إلى طرح مشروع الإسلام السياسي في الشرق الأوسط جانباً، بالتزامن مع تطور الأحداث السياسية عبر عدد من الملفات الساخنة، التي أدت إلى انزياح الدعم المالي واللوجيستي، الذي طالما حرصت أنقرة على تقديمه لقيادات الإخوان الهاربة من مصر.

محسن النابتي: عملية الاختراق والتمكين في كل مفاصل الدولة، أربكت عمل المؤسسات، وخلقت ازدواجية أضعفت منظومة الأمن القومي، وحولت تونس إلى مركز لتسفير الجهاديين  لبؤر التوتر

حينما قال راشد الغنوشي ذات مرة: "نتطلع إلى تطوير حزب نهضة جديد، وتجديد حركتنا، ووضعها في المجال السياسي خارج أيّ انخراط مع الدين، كنا  قبل الثورة نختبئ في المساجد، ونقابات العمال والجمعيات الخيرية؛ لأنّ النشاط السياسي الحقيقي كان محظوراً. لكن الآن يمكننا أن نكون طرفاً سياسياً علنياً". لم يكن يدرك أنّه يتيح البيئة المثلى لتفاعل كافة عناصر الانهيار من داخل الحركة، التي انشقت على نفسها بين تيارين رئيسيين؛ كلاهما يشترك في الانغماس كليّاً داخل بؤرة مفاهيم الإسلام السياسي، بيد أنّ المتغير الرئيس بينهما انحصر عند من يعلي قيم البراغماتية والانتهازية، والتي بدت على حقيقتها في سعي راشد الغنوشي نحو فرض التمكين والهيمنة على كافة مفاصل الدولة التونسيّة، والتي من خلالها يمكن إدراك أبعاد الصورة الكاملة للصراع، الذي نشب بين الرئيس قيس سعيّد، وراشد الغنوشي، وتحركات الأخير نحو جذب الوزير الأول هشام المشيشي نحو حزامه السياسي، بحيث يؤدي ذلك إلى إحراج الرئيس، وإظهاره دون أيّ مفاعيل نافذة.

الجهاز السري لحركة النهضة

في إطار ذلك يرى محسن النابتي، الناطق الرسمي باسم التيار الشعبي، أنّ الجهاز السري لحركة النهضة، أو ما يعرف بالجهاز الخاص في أدبيات الإخوان المسلمين، هو جهاز ملازم لكل الحركات الإخوانية في كل الأقطار العربية، منذ نشأة هذا التنظيم. والحركة الإخوانية في تونس لم تكن استثناء منذ ظهورها في السبعينيات، وقد نفذت عدة جرائم، وقامت باختراق المؤسسة الأمنية والعسكرية، ما نتج عنه عزل عدد من الضباط ومحاكمتهم، ومن بينهم المدعو مصطفى خذر، الذي ظهر اسمه للسطح، بعد اغتيال الشهيد محمد براهمي، وانكشاف ما يعرف الآن في تونس بالجهاز السري لحركة النهضة.

الصدفة وحدها هي من كشف هذا الجهاز السري، العام 2013، والذي كلف مصطفى خذر، باعتباره ضابطاً سابقاً بالجيش التونسي، بإعادة بنائه، حيث إنّ السيدة صاحبة المحل، الذي استأجره مصطفى خذر، كمدرسة لتعليم قيادة السيارات، جاءت في زيارة مباغتة لتفقد المحل، بعد تشكيكات من بعض جيرانها، حول ما يجري فيه، وخاصّة عملية إتلاف الوثائق التي تتم بوساطة آلة تقوم بحرقها، وعليه وصلت فرقة أمنية إلى المكان، وحجزت وثائق وأجهزة تنصت وتصوير، لا تملكها إلا أعتى أجهزة الاستخبارات، وعثرت على وثائق ومراسلات رسميّة للدولة، وخرائط لمواقع حساسة، ومعلومات شخصية عن شخصيات مهمة في الدولة، وخاصّة في الأجهزة الاستراتيجية، وصحفيين وفنانين وساسة، إضافة إلى ما يفيد التعامل مع جهات خارجية، منها الإخوان المسلمون في مصر، إبان حكمهم، حيث طلبوا منهم مساعدتهم على بناء جهاز استخباراتي.

ويتابع النابتي، القيادي في التيار الشعبي، حديثه لـ"حفريات"، لافتاً إلى ضرورة العودة للفيديو الشهير لراشد الغنوشي، الذي سُرب في العام 2012، وبه تفاصيل لقاء جمعه بالسلفية الجهادية، حيث يقول لهم بشكل واضح، عليكم التريث؛ فالجيش مايزال غير مضمون، والأمن مايزال غير مضمون، ونصحهم بضرورة اختراق هذه المؤسسات أولاً، قبل الاستيلاء النهائي على البلاد، وتنفيذ مشروع الدولة الإسلامية، حيث أكد في ذلك الفيديو، الذي لم ينكره، أنّ الخلاف بين حزبه والجماعات الجهادية هو خلاف تكتيكي؛ بخصوص توقيت فرض أفكارهم على الشعب. 

اقرأ أيضاً: محلل سياسي تونسي لـ"حفريات": "النهضة" قضت على نفسها

 عملية الاختراق والتمكين في كل مفاصل الدولة، أربكت عمل المؤسسات، وخلقت ازدواجية أضعفت منظومة الأمن القومي، وحولت تونس إلى مركز لتسفير الجهاديين  لبؤر التوتر، وتفاقم الإرهاب ليضرب اثنين من أهم زعماء الحركة الوطنية، الشهيدين محمد براهمي، وشكري بلعيد، وعدداً كبيراً من العسكريين والأمنيين والمدنيين، طيلة هذه العشرية، إضافة إلى تفاقم نشاط كل جماعات الجريمة المنظمة، من تبييض أموال، وتجارة مخدرات، والاتجار في البشر والتهريب والهجرة غير الشرعية، ما حوّل تونس إلى بيئة خطرة، وهو ما يفسر الاحتقان الشعبي الكبير تجاه جماعة الإخوان وحزبهم النهضة.

جدل الدولة والجماعة في استراتيجية النهضة

حول علاقة تنظيمات الإسلام السياسي بمفهوم الدولة الوطنية، والحفاظ على قيمها، وكذا المشترك بين كافة تنظيمات الإخوان المسلمين، يستقر رأي الكاتب والمحلل السياسي التونسي، عبدالجليل بن قرة، أنّ العقيدة الإخوانية واحدة في كلّ بلدان العالم، ويمكن اختزالها عبر عدد من النقاط، التي تسعى نحو  تدمير الفكرة الوطنية، والدّولة الوطنية، وتعويضها بدولة إخوانية متسلّطة معادية للحرّيات العامّة، وخاصّة الحرّيات الفردية، وفرض مشروعها بالعنف، وتدمير الاقتصاد الوطني، وتعويضه باقتصاد ريعي ووسيط، والعمل على  تدمير الطبقة المتوسّطة، التي تمثل عماد التوازن المجتمعي، وهيمنة طبقة الوسطاء مع مراكز الانتاج الأجنبية.

وما يلفت إليه ابن قرة، في تصريحاته التي خصّ بها "حفريات"، يعبر عن برنامج حركة النهضة، على امتداد عقد كامل من حكمهم وتسلّطهم على الدّولة التونسيّة، التي تعاملوا معها كغنيمة غزو، إذ شرعوا منذ أيّامهم الأولى في النهب، والأمثلة على ممارساتهم المدمّرة لا تحصى، ويكفي ذكر سرقة وزير خارجيتهم، رفيق عبد السلام (صهر الغنوشي) لهبة منحتها الصين الشعبية للدولة التونسية، كما يمكن ذكر سطوهم على العديد من أملاك الدّولة، والأملاك المصادرة من عائلة الرئيس السابق زين العابدين بن علي، ولا يمكن حصر كلّ ما قاموا به من نهب؛ سوى عن طريق القضاء النزيه والعادل، خاصّة وقد بادروا بالسّيطرة على القضاء لحمايتهم، وللانتقام من كلّ خصومهم، ويلفت ابن قرة إلى تغطيتهم على المتورّطين في عمليات اغتيال الشهداء المعارضين؛ شكري بلعيد، ومحمد البراهمي، ولطفي نقض، وتسبّبهم في موت سجناء معارضين لحكمهم، مثل النائب السابق بالبرلمان التونسي، ورجل الأعمال، الجيلاني الدبوسي؛ لذا بادر الرئيس التونسي بالإشراف على النيابة العامة، حتى يتمّ الكشف عن كل جرائم الإخوان.

عبد الجليل بن قرة: إنّ أخطر ما قام به الإخوان في تونس، هو تدمير الصناعة والفلاحة التونسية، وتحويل الاقتصاد الوطني إلى اقتصاد ريعي، وأصبحت تونس بلداً يستورد كلّ شيء من تركيا

عمل الإخوان على إحداث الفتنة، عندما قسّموا المجتمع التونسي  إلى "مؤمنين بعقيدة الإخوان"، وكافرين بدين الإخوان، فلا تكاد تمرّ مناسبة إلّا ويزداد معها الانقسام عمقاً: في المناسبات الدينية كرمضان، والأعياد، وأثناء التظاهرات الفنية والثقافية، وأيضاً عندما يحصل أيّ حدث في البلدان العربية، بل وصل بهم الأمر إلى تقسيم المجتمع أثناء موت بعض الشخصيات العامة، والترحّم على بعضهم، ورفض الترحّم على آخرين، بل ولعنهم، مثلما حصل إبان وفاة الشاعر التونسي الكبير محمد الصغير أولاد أحمد، والكاتب والصحفي الكبير المصري محمد حسنين هيكل، عندما امتلأ الفيسبوك الإخواني التونسي، باللعنات على الرّاحلين الكبيرين.

ويختتم عبد الجليل بن قرة  تصريحاته بقوله: إنّ أخطر ما قام به الإخوان في تونس، هو تدمير الصناعة والفلاحة التونسية، وتحويل الاقتصاد الوطني إلى اقتصاد ريعي، وأصبحت تونس بلداً يستورد كلّ شيء من تركيا، وتوقّفت صادرات المنتوجات التونسيّة، بما فيها صادرات الفوسفات، وكانت تونس تصنّف فيه ضمن أوّل المصدّرين في العالم؛ فتحوّلت لأوّل مرّة في تاريخها إلى بلد مستورد، ونتج عن ذلك تدمير الطبقة المنتجة والمستثمرة الوطنية، والطبقة المتوسّطة، ضامنة التوازن الاجتماعي، مقابل إطلاق العنان لطبقة المهرّبين، ونسمّيها في تونس طبقة "الكنا طرية"، وإغراق الأسواق بالمنتوجات التركية؛ ما أدّى إلى إغلاق عديد المصانع التونسيّة، وهجرة المستثمرين التونسية إلى المغرب، مع هجرة الكفاءات والخبرات العلمية والبحثية إلى أوروبا وأمريكا الشمالية.

اقرأ أيضاً: "النهضة".. 10 سنوات من إجهاض ديمقراطية تونس

الأكاديمي التونسي صلاح الدين العمري، في تصريحات لـ"حفريات"، يعلّق على تطورات الأحداث في تونس، وأثرها المباشر على وضع حركة النهضة بين التونسيين بقوله: لئن نجحت حركة النهضة الإسلاميّة في استقطاب أصوات عدّة في انتخابات المجلس الوطني التأسيس، فإنّ هذه الشعبيّة سرعان ما تلاشت مع كل مرحلة انتخابية جديدة، حتى بلغت في انتخابات العام 2019 حوالي 500 ألف صوت، بعد أن كانت في أول محطة انتخابية حوالي مليون ونصف المليون صوت، وحصل هذا التداعي بسبب تفطن التونسيين إلى رغبة الحزب في التمكين والسيطرة على مفاصل الدولة، واتضحت هذه المعالم أكثر مع إيثار الحركة لأتباعها بالخطط والوظائف، رغم أنّ الثورة قامت على شعار أساسي هو: شغل حرية كرامة وطنيّة. فالشباب الباحث عن عمل يرى بأم عينيه كيف تتمّ الأمور، وكيف يستأثر أتباع حركة النهضة بالمناصب، ويضاف إلى ذلك ما يُكشف كل مرة حول سيطرة الحركة على مفاصل القضاء، والتلاعب بالقضايا، بعد أن نصّب القيادي نور الدين البحيري، شبكة متماسكة من القضاة، تتصرف في القضايا المعروضة، وفق الأوامر السياسيّة. وتدعّم هذا المشهد بما صار يظهر من ثراء ورغد في العيش على زعماء الحركة، بعد أن كانوا من الفقراء والمهمّشين قبل العام 2011، رغم الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها تونس. واتسعت دائرة هذا المأزق بحالة الصراع التي نشبت بين التحالف الحزبي للنهضة، ومؤسسة رئاسة الجمهورية، فالغنوشي يعيش حالة من جنون العظمة، جعلته يعتقد أنّ الجميع تابع له، وأنّه الحاكم بأمره، وقد دفعه غروره إلى محاولات انتقاميّة من رئيس الجمهوريّة، عبر مجموعة من النواب التابعين للتيارات المتشدّدة، وقد بلغ الأمر برئيس حزب الكرامة، سيف الدين مخلوف، إلى توجيه إهانات علنيّة ومباشرة لرئيس الجمهورية وتهديده بالعزل. 

صلاح الدين العامري: الشباب الباحث عن عمل يرى بأم عينيه كيف تتمّ الأمور، وكيف يستأثر أتباع حركة النهضة بالمناصب، ويضاف إلى ذلك ما يُكشف كل مرة حول سيطرة الحركة على مفاصل القضاء

كل هذه العوامل، خلقت حالة من الرفض والتمرّد ضدّ هذا الحزب، ظهرت معالمها يوم 25 تموز (يوليو) الماضي، وقد انخرطت رئاسة الجمهورية في هذه الحركة، بعد التنسيق مع قادة الجيش والأمن الوطني، الرافضين لهيمنة الإسلام السياسي، وتُوّج الحراك بقرارات تجميد البرلمان، وإقالة الحكومة، وبدء محاكمات لهياكل الحزب وحلفائه. 

ويمكن القول إنّ راشد الغنوشي، زعيم الحركة، قد انتهى سياسيّاً، بسبب ما وقع، وبسبب حركة الرفض داخل حزبه، التي اتسعت رقعتها. وسيجد الناقمون عليه في هذه الأحداث حجة لإنهاء هيمنته ونفوذه، وأمّا الحزب فمن الصعب إنهاؤه؛ إلاّ بإجراءات قانونية صارمة، تمنع التحزّب على أساسي ديني ومذهبي.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية