العنف الديني ..إذ ينحو منحى فوضوياً

العنف الديني ..إذ ينحو منحى فوضوياً


31/01/2018

كما سبق وأشرنا في المقال السابق؛ الذي تناولنا فيه العنف من وجهة نظر الفلسفة، بالوقوف على الدوافع والجذور، أنّ العنف ينشأ، أولاً، على صورة رؤى وأفكار، وقلنا إنّ الناس يتقاتلون على مستوى التصورات أولاً، وبناءً على ذلك؛ نتناول التصورات الدينية التي تقف كمبرّرات عميقة وكامنة في مجتمعاتنا للعنف، الذي هو استخدام غير شرعي للقوة، وفي الحالة الدينية؛ يستند استخدام القوة على الشرعية الدينية والمقدّس، بتوظيف مقولات وأفكار رائجة في ثقافة هذه المجتمعات، التي لم تبلغ مرحلة الإصلاح الديني بعد؛ إذ ما زالت في حالة غياب عن الوعي على المستوى الديني، فهي تخضع لهذه الأفكار، وتحدّد لها المفكَّر فيه واللامفكَّر فيه، بلغة المفكر محمد أركون، أو ما يجب أن يكون عليه العالم والدولة والمجتمع، وهي أفكار دينية في معظمها، متوارثة ومستجلبة من العصور القديمة، ومنزوعة من سياقها، وبعضها ملتبس وغير ثابت، كما أنّها ليست واحدة، ومختلف حولها، فالعنف الديني جزء من ثقافتنا التي لم تراجع نفسها بعد، ولم تشهد إزاحات معرفية وأخلاقية ونفسية.

العنف الديني جزء من ثقافتنا التي لم تراجع نفسها بعد، ولم تشهد إزاحات معرفية وأخلاقية ونفسية

التعصب والغلوّ كنتيجة للتماهي

ينتج الانغماس في الرؤى الفقهية، التقليدية والتلقينية، تماهياً كلياً معها، ليعتقد المتدين أنّ هذه التصورات جزء لا يتجزأ من كينونته وهويته كفرد؛ فهي تمنحه التواجد والتعريف والاطمئنان النفسي والعقلي، وسريعاً ما تبدأ هذه التصورات بامتلاكه، وتوظيفه لأجل نصرتها تاريخياً، فيتحول من متديّن، إلى داعية إلى مجموعة من الرؤى والأفكار، غير القابلة للنقد والنقاش، مع اعتقاد عميق بأحقيّتها في امتلاك الواقع والتحكّم فيه، بعزّ عزيز، أو بذلّ ذليل. ونسبة للمخزون التراثي الكبير الذي يبرر له معتقداته، فسيكون متكئاً على مجموعة من النصوص الدينية يتعصب إليها، ويبدأ هذا التعصب في أن يكون معياراً في التأويل والنظر، وبهذا تنشأ جماعات متفرقة متعصبة، ترى في نفسها الدين والحق، الذي ليس بعده حقّ، وبينما يعتقد كثيرون أنّ العنف، الناتج عن التطرف من قبل بعض الأفراد، ينتمي إلى المرض النفسي. نرى هنا أنّ الأمر أبعد من ذلك، كونه وليد ثقافة يتناول أفرادها، بصورة يومية، ومن مصادر مختلفة، مقولات مغلقة وأفكار وتأويلات دينية هدّامة، يتماهى فيها الفرد مع تصوراته، ويختزل نفسه والآخرين فيها.

تاريخ العنف في الثقافة الإسلامية اشتمل على كثير من البشاعات كالصلب والإلقاء من أعلى المباني وتقطيع الأوصال والنفخ

التعددية والاختلاف

تحوّل التعصب والغلو إلى تطرف يصادر الآراء، ويحرّم الاجتهاد الديني، الأمر الذي ساهم في تأخّر عملية الإصلاح الديني في مجتمعاتنا الإسلامية؛ إذ إنّ الاشتغال على الشأن الديني، تطويراً أو تجديداً، يجعل حياة المشتغلين في خطر، إثر التكفير والتصفيات الجسدية، وهي أبرز أشكال العنف الديني في منطقتنا، فعلى مرّ التاريخ؛ كان المخالفون للسائد يواجهون الاتهام بالردّة والزندقة والكفر، وقد رأينا كيف تعرّض كثير من المفكّرين لإجراءات حكم فقهي، لا يعلم كثيرون أنّها ضدّ الحرية التي دعا إليها الدين نفسه، وهو حكم الردة، وكيف باركت المجتمعات هذه الخطوة، كما في حالة المفكّر السوداني محمود محمد طه، الذي تم قتله بسبب آرائه التجديدية.

تحوّل التعصب والغلو إلى تطرف يصادر الآراء، ويحرّم الاجتهاد الديني، الأمر الذي ساهم في تأخّر عملية الإصلاح

إنّ العنف الذي تتم ممارسته في الثقافة الإسلامية، مفاده اختلال منظومة القيم والمبادئ فيها، التي في مقدمتها؛ احترام الرأي الآخر، والإقرار بالتعددية والاختلاف في الوجود الإنساني، وكمصدر من مصادر الإبداع في الحياة، وسنّة من سنن الله في خلقه، فهناك حالة متنامية من الاختزال؛ إذ يتم اختزال الحياة وتطورها في أمور مضت، ومضى سياقها الذي أنتجها، والذي هو سياق بشريّ بحت، وتنشط جماعات كثيرة في الفضاء الإسلامي والعربي، في نشر الرعب والتدمير باسم الدين، والهوية الإسلامية الطهرانية المتخيلة.

أحكام ناجزة في التاريخ

إنّ مجتمعاتنا تفتقر للتاريخية في النظر إلى الأمور، ونرى ذلك واضحاً في استدعاء الأحكام الناجزة، في حقبة قد مضت، تحدّد مصير المخالف كونه غير مرغوب فيه، أو كونه يشكّل خطراً على الآراء التي غدت مقدّسة وملتبسة بالمقدّس، وقد رأينا كيف كان الجدل حول إحراق الطيار الأردني، معاذ الكساسبة، فكثيرون من حيث لا يشعرون باتوا يناقشون شرعية الإحراق، الأمر الذي يعني الاتفاق حول العقوبة بالقتل، لكنّ الاختلاف في الطريقة وثبوتها تاريخياً، ليتضح الأمر، بعد البحث تاريخياً، أنّ تاريخ العنف في الثقافة الإسلامية، اشتمل على كثير من البشاعات؛ كالصلب، والإلقاء من أعلى المباني، وتقطيع الأوصال، والنفخ، ...إلخ. فالمبدأ الذي يجب أن يسود؛ هو مبدأ حرية الاعتقاد والاختلاف، والوقوف ضدّ العنف ضدّ الآخر، المخالف، بكلّ أشكاله، لا الخلاف حول شكل العقوبة، وإقرار أحقية الإنسان في التعاطي مع الشأن الديني، قراءةً وتأويلاً وتجديداً.

تقنين العنف

إذا كان العنف الديني ينحو منحى فوضوياً، لدى الأفراد المتدينين والعوام، فإنّه لدى الحركات الجهادية وحركات الإسلام السياسي، ينحو منحى تنظيمياً في عدة اتجاهات؛ حيث يتم تدريب الأفراد على معاداة أيّة أيدولوجيا أخرى غير أيدولوجيتها، التي ترتبط بالمقدّس، وتبشّر بالوعد الإلهي المتمثل في الخلاص الذي تحمله هي للمجتمعات الإسلامية، كما توظّف هذه الحركات البنية المعرفية الهشّة في هذه المجتمعات، التي لم تتبلور فيها فكرة النقد بعد، فتطرق عاطفة هذه المجتمعات الدينية، لتجعلها قوة ضاربة تحارب بها من أجل تثبيت أركان أفكارها، وتصوراتها عن الدولة والمجتمع. وفي المقال المقبل، سنقف على أهم المنطلقات لدى هذه الحركات، في ممارساتها وتبنّيها للعنف الديني المقدّس، وتقنينه، وتطويره، الذي يكتسي عندها طابعاً جديداً، وسنقف على أهم المراجع والمؤلفات التي تبنّته ودعت إليه.

الصفحة الرئيسية