الصحافة العربية تودع "صبي الأسرار" خيري منصور

الأردن وفلسطين

الصحافة العربية تودع "صبي الأسرار" خيري منصور


19/09/2018

الحزن الصادق الذي ضمّخ كلمات أصدقاء خيري منصور على رحيله أمس كان نابعاً من الصورة التي رسمها عن نفسه كاتبُ المقال الأشهر والأكثر عذوبة في الصحافة العربية.
كان خيري منصور في حياته شعلة من الشباب والنشاط والألق حتى وهو على مشارف الثالثة والسبعين، لذا لم يتوقع كثيرون أن يباغته الموت، كأنما عاش ليبقى ويشع ويتمرد على قوانين الطبيعة.
على هذا النحو، يمكن أن يُفهم كلام الكاتبة زليخة أبو ريشة: "لا أعرف كيف أودعك يا خيري؟ كنت أظنك مؤبداً في حياة الرجاء وحياة اللغة. فكرتك الساخرة التي تفيض كما من ينبوع.. وحديثك العذب الأخاذ. حضورك وذهنك الوقاد وألمعيتك من نوادر ما يجتمع في مثقف. أنت حالة فريدة حتى في خفة رحيلك. وكم هو مزعج ومحض ألم أنّ هذه الحياة قد خلت منك، مثلما خلت من أصدقاء رحلوا".

"صبي الأسرار" سيرة نثرية قام بنشرها العام 1993

والذين نعوا خيري منصور تذكروا براعته اللغوية في الكتابة الساحرة التي تعكس ثقافة واسعة لكاتب وشاعر رصد حياته للمعرفة واكتشاف الحياة، لذا كان مشّاء وحكاء من طراز نادر، يجوب الأزقة والشوارع في المدن العربية بقميصه المفتوح حتى المنتصف، ما يظهر فانيلته الداخلية البيضاء، وكان حذاؤه من طراز  كلاسيكي لامع، وكان يسير كطاووس أنيس، لا كعادة المثقفين الفارغين الذين يطيشون على شبر ماء.
الحزن المخيّم على قلوب صديقاته وأصدقائه نابع من حرص خيري منصور على أن يبقى يافعاً بقامته المنتصبة ونحوله واهتمامه العالي بصحته وحبه اللامتناهي للسهر والليل؛ إذ كان ينام نهاراً ويصحو عصراً ليبدأ يومه وكتابته التي كان يعتاش عليها، ولم يبع قلمه لأحد أو جهة، فظلّ عصياً على التطويع.
قبل انتهاء رحلة عمره، كان خيري منصور يصر دوماً، أنه توجد بقعةٌ ما من "الوطن العربي المحتل" لا زالت حرة، ولا زالت تصلح للكتابه والإنسان والبحث عن المستقبل.

لمع نجم منصور في الأردن نهاية الثمانينيات حين كتب مقالاً كسر من خلاله حظر نشر المقالات في الصفحة الأولى

ورغم العنوان المؤلم لواحدةٍ من أهم مقالاته، التي رأى فيها أنّ وطنه العربي محتل، إلا أنه جاب خلال حياته معظم بلدانه، تاركاً خلفه تأثيره الكبير، من خلال فن كتابة المقال.
وربما إنّ العديد من الشباب في الأردن، ممن حلموا بالكتابة وهم يقرأون نصاً ما، كانوا غالباً جالسين يقرأون مقالاً لخيري منصور، الذي يجبر قارئه على الانبهار، ويحيله إلى العديد من الأسماء والكتب حول العالم، ويوجهه لتشكيل رأيٍ عميق حول قيمةٍ أو فكرةٍ إنسانية عظيمة، تجعل القارئ يجوب الآفاق وهو في مكانه.
وبرحيله تفتقد العديد من الصحف والمجلات المحلية والعربية، خيري منصور، الذي كتب آلاف المقالات والعديد من المجموعات الشعرية والنقدية، في مواضيع غزيرة ومتعددة، جميعها تنتمي للحياةِ أولاً مثلما كان يقول؛ حيث رأى دوماً أنّ الانتماء يكون للإنسان والطبيعة والواقع، قبل أن يكونَ لنصٍ أو كتاب.
وبسبب مهارته وسعة أفقه اختاره الراحل محمود الشريف وهو من أساطين الصحافة في الأردن أن يكتب مقالته على الصفحة الأولى من جريدة "الدستور" الأردنية، وظل على ذلك حتى رحيله، يمنح القراء البهجة ويثير أسئلة لا تنقطع في أذهانهم.

يؤكد معظم قراء خيري منصور وأصدقائه، على أنه أفضل كاتب مقالٍ وعمود صحفي في الصحف والمجلات العربية

وكتبت صحيفة "الخليج" الإماراتية؛ حيث كان يكتب خيري منصور فيها منذ عقود: "ودّع الزميل الكاتب والشاعر الأردني خيري منصور، مساء أمس، قراءه من مركز الحسين للسرطان بالعاصمة الأردنية عمّان؛ حيث توفي عن 73 عاماً.
وبذلك الرحيل، خسرت الصحافة والثقافة العربيتان قلماً عاش منشغلاً بتفاصيل فلسطين التي ولد مع إرهاصات نكبتها وسكنت روحه حتى الأنفاس الأخيرة".
ونعت صحيفة "الدستور" خيري منصور الذي كان، فضلاً عن مقاله اليومي، يعمل محرراً للصفحة الأدبية فيها. وكتب رئيس مجلس إدارة الصحيفة، محمد داوودية "الكاتب البارز في صحيفة الدستور الأستاذ خيري منصور في ذمة الله". كما نعى الراحل، نقيب الصحفيين الأردنيين راكان السعايدة الذي وصفه بـ "الصحفي والكاتب المبدع".
ونعى منصور الاتحادُ العام للأدباء والكتاب العرب الذي يرأسه الشاعر الإماراتي حبيب الصايغ، وقال في بيان "إن رحيل خيري منصور خسارة كبيرة للأدب وللصحافة والثقافة العربية بشكل عام، فقد ظل صادقاً متمسكاً بمبادئه ووفياً لقناعاته حتى لحظة رحيله، كما عبر عن القضية الفلسطينية التي أثرت على قصائده وعلى إنتاجه الأدبي والنقدي والثقافي".
كما نعته هيئات ومؤسسات ثقافية وأدبية عديدة منها وزارة الثقافة الأردنية والاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين.

الراحل محمود الشريف

الرحلة نحو الصفحة الأولى
بعد مرور ثلاثةٍ وسبعين عاماً على ولادته، يذهب ابن قرية دير الغصون الفلسطينية إلى مثواه الأخير، وفي جعبته الكثير من الأوراق، غالباً ما ستكون روحه ملطخةً بالحبر، فهو لم يرتح من الكتابة أبداً طوال حياته، منذ يوم ولادته عام 1945، مروراً بدراسته للآداب في القاهرة، وليس انتهاءً بقيام الاحتلال الصهيوني بإبعاده عن الضفة الغربية في العام 1967، فكان عام النكسة، يبدو إليه مثل نكستين، غير أنه غادر إلى الكويت، ثم ذهب إلى العاصمة العراقية بغداد، ليستقر هناك، ويعمل محرراً في مجلة "أقلام عراقية".
بعد ذلك، عمل منصور مسؤولاً عن قسم التحرير في "مجلة الفكر المعاصر" وكانت تصدر في بيروت. أما في الأردن، فلمع نجمه نهاية الثمانينيات، حين كسر الأسلوب المعتمد في طباعة الصفحة الأولى من صحيفة "الدستور" الأردنية، وذلك أن الصحيفة في حينه، لم تكن تسمح بوضع مقالٍ في الصفحة الأولى منها، غير أن منصور تمكن من وضع اسمه ومقاله هناك.

رأى منصور أن مهمة المقال الفكرية والتنويرية تم استلابها لصالح السياسات الموجهة واصحافة الاقتصادية والإعلان

وبهذا الخصوص، يشير الكاتب والصحفي الأردني عامر طهبوب إلى أن "محمود الشريف مؤسس الدستور ورئيس تحريرها آنذاك، وهو مثقف كبير، ورجل صلب، كان يرفض نشر أي مقالٍ في الصفحة الأولى من الدستور، وكان مستمراً على هذا التقليد، إلى أن قرأ مقالاً لخيري منصور".
ويقول طهبوب عن صديقه الراحل "خيري منصور هو الوجه الشعري لمحمود درويش، وبأي حال، إن القراءة لمنصور، تحتاج من القارئ أن يرقى ويرتفع، في خياله وتفكيره، إنه يدفع قارئ مقاله إلى البحث أكثر في الكتب والحياة". ويشير طهبوب، في حديثه لـ"حفريات"، إلى أن خيري الكاتب والإنسان، الذي عرفه عن قرب كان "صلباً وصريحاً، كما إنه كان ساخراً لا يتملق الأفكار ولا الأشخاص".
ويذكر طهبوب، أنه قبيل منتصف التسعينيات، وحين كانت حكومة الصهيوني "نتنياهو" تحفر لأول مرةٍ أسفل المسجد الأقصى قام طهبوب "بإجراء خمسين حواراً حول هذا الموضوع، مع خمسين مفكراً عربياً، أجمعوا أن القدس ربما تضيع، وبمجرد أن توجه إلى صديقه خيري منصور، قال له: أرجو ألا تستمع لأيهم، فالقدس ضاعت وانتهى الأمر".
ولم يقلها يائساً، هو فقط، كان واقعياً، وأراد أن يسخر ويحزن، ليعرف من أين تبدأ نقطة الانطلاق، من أجل العودة إلى وطنه. هذا ما تشي به مقالاته الكثيرة، التي كانت لاذعة في السياسة والثقافة والاجتماع، وغير قابلة للمهادنة.
وفي هذا الشأن، يقول خيري منصور نفسه "ولادة فن كتابة المقال، ارتبطت فعلاً بتنوير الإنسان، والتعبير عن رأيه وفلسفته، وربما إن المقال العربي ولد في ظروفٍ معقدة؛ لأن الصحافة العربية ولدت على سفينة نابليون بونابرت، فهو من أصدر أول صحيفة عربية تجاهنا، لكن هذا لم يمنع فيما بعد، من تحول الصحف العربية القليلة آنذاك، إلى منصات للمفكرين والمتنورين العرب، الذين تعرضت جهودهم النهضوية لإجهاظاتٍ متعددة".

اقرأ أيضاً: الصحافة العربية تخسر أبرز أعمدتها بوفاة الكاتب الأردني خيري منصور
ويشير منصور، خلال مقابلةٍ أجرتها معه قناة العربية على صفحتها في موقع "يوتيوب" بتاريخ 9 تشرين الأول (أكتوبر) 2016، إلى أنّ المقال العربي تطور على يد مفكرين عرب مثل؛ طه حسين والعقاد وسواهما، إلى أن "صارت مادته نواةً لكتبٍ فكرية وتنويريةٍ مختلفة، لكن هذا تراجع لصالح الصحافة السياسية الموجهة، والاقتصادية، والإعلانية، إضافةً إلى كثرة الصحف، التي سلبت من المقال دور البطل في حياة القارئ، وحولته إلى مجرد مادةٍ لملئ الفراغ".

صبي الأسرار

لسنا أوفياء للحياة، هذا ما يريد خيري منصور قوله في "صبي الأسرار"، وهي سيرة نثرية، ربما تكشف العديد من الأحداث والتجارب حول حياته، وقام بنشرها العام 1993. فهو في سيرته، يرى الوقت غير ممكن الحساب، ولا الترتيب، ويرى أنّ ضياع فلسطين وطنه، أدى إلى ضياع الطريق للمستقبل، مما يعني أن أحداً من يحسون بالألم، لن يعودوا أوفياء لحياتهم، سوف يمتهنون المهن، ويبتاعون مستلزماتهم، سوف ينجبون، ينجحون، يفشلون، ثم يموتون، دون أن يصادفوا المستقبل خلال حياتهم، لأن كل يومٍ قادم، أصبح مجرد استذكارٍ للماضي.

اقرأ أيضاً: صحافي تركي.. أنقرة أسوأ سجن للصحافيين!
وينفي منصور خلال حياته، أن يكون متشائماً، إنه فقط واقعي، كما قال في أكثر من مناسبة، وقد حاول إثبات ذلك، من خلال كتابه "الاستشراق والوعي السالب"، الصادر عام 2002، حيث ركز من خلاله، على قيمة التراث والثقافة والفكر العربي أما الذات العربية نفسها، وأن مراجعة الكثير من النصوص الفكرية والعربية، التاريخية منها والمعاصرة، لا تكمن مشكلتها في الخطاب الذي شكله الاستشراق بحد ذاته، بقدر ما توجد مشكلةٌ كبيرة في الخطاب الذي يشكله العرب أنفسهم، حول تراثهم الفكري التاريخي والمعاصر.
منصور، وهو شاعرٌ أيضاً، له مجموعات شعرية منها "الكتابة بالقدمين"، "غزلان الدم"، " وغيرها، واكب بداية (الربيع العربي)، وعبر عنه في إحدى مقالاته العام 2013 بطريقته الخاصة قائلاً "لم يعد أستاذ الجغرافيا بحاجة للحديث عن المدن العربية وأمكنتها على الخرائط، أصبح يمكن للطالب أن يعرف كل مدينة، من خلال القصف الذي يطالها من الغرب، أو من حلف الناتو مثلاً، فالأسماء والمواقع يتم ذكرها، لكن بطريقةٍ وحشية، بتنا نعرفها".
أرشيف يضم أكثر من ألف مقالٍ لمنصور: خيري منصور

كتابه "الاستشراق والوعي السالب"، الصادر عام 2002

انخرط خيري منصور في كل ما هو عربي وعالمي وإنساني، وبقي مطلعاً حتى أيامه الأخيرة، على ما يصدره العالم من فكرٍ وثقافةٍ ووحشية أيضاً، عناوين مقالاته مميزة، نشرتها صحف عربية من المحيط إلى الخليج، وهي لا تكاد تنتهي مدة صلاحيتها أبداً، مزج منصور الجمال والإبداع معاً. وهو حاصل على أكثر من جائزة عربية، من أهمها جائزة الصحافة العربية عام 2004.
يقول حامد طراونة، وهو ممن يعتبرون أنفسهم اندفعوا للقراءة والكتابة بسبب خيري وبسبب مقالاته، لـ"حفريات" "بدأت أقرأ لخيري منصور وأنا في الخامسة عشرة من عمري، وأبلغ اليوم من العمر ثلاثةً وأربعين عاماً، ولا زلت لا أصدق، أنّ خيري منصور موجود فيزيائياً أصلاً، حتى يموت، إنه بالنسبة لي كائن مفعم بالعمق والمعرفة والجمال، أكتفي بقراءته كل مرة".
الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي غرد على "تويتر": الحكّاء الماهر ينهي حكايته فجأة. وداعاً خيري منصور.
أما الشاعر والكاتب الأردني غازي الذيبة فرثاه على صفحته على "الفسيبوك" قائلاً:
أيلول يسرق حقول القمح من البيادر
وها أوسطه، يسرق بذخ خيري منصور
ليترك زاويته اليومية المثقفة، فارغة
إلا من روحه ورياحه.
سلاما لروحه، ووداعا للطيور القلقة.

وكتب الروائي الأردني يحيى القيسي راثياً منصور:
وجع رحيل مبدع متأمل ومثقف شمولي بحجم خيري منصور...
كم صدمتنا كبيرة برحيلك..عليك السلام...
وعلى الحالة الثقافية التي تحتفي بالراحلين دون الأحياء السلام..!

وعلى طريقته عبّر رسام الكاريكاتير الأردني ناصر الجعفري عن حزنه لفراق منصور؛ حيث ودعه برسم كاريكاتيري وكتب على صفحتيه على "فيسبوك" و"تويتر": وداعاً صاحب أجمل مقال.

الصفحة الرئيسية