الحب عندما يكون ديناً يغزل الكون منه النشوة الروحية

الحب عندما يكون ديناً يغزل الكون منه النشوة الروحية


كاتب ومترجم جزائري
28/01/2018

ماتا أمريتانانداماي Mata Amritanandamayi ، المولودة في 27 سبتمبر 1953، شخصيةٌ روحيّة معاصرة في الهند، ومؤسِّسة المنظمة غير الحكومية "احتضان العالم" لأغراض إنسانية وإيكولوجية، ومقرها في ولاية كيرالا (أقصى جنوب غرب الهند). تُلقَّبُ عادةً بـ آمَا Amma ("الأم" في اللغات الدرافيديانية)، وهي هندوسية بالولادة، ولكنّها تقول إنّ دينّها الوحيد هو الحب. ويستند تعليمُها على الطرق التقليدية لعدم الازدواجية (أدفيتا فيدانتا) والتفاني والورع (بهاكتي).

تسافر آمَا كثيراً عبر العالم لكي تقِيم تجمعاتٍ استطاعت من خلالها منذ عام 1975 أن تحتضن عشرات الملايين من الناس (بمعدل مليون شخص في السنة)، ومن بينهم رئيس الهند المسلم السابق أبو بكر عبد الكلام. هذا "الاحتضان" (دارشان) أصبح "علامتها التجارية" المميّزة.

عند ولادتها كان لونُ وجهِها أزرق لافتاً، مثل الإله كريشنا، ولم تبكِ الطفلةُ ولم تصرخ ككل ممولود جديد؛ بل أظهرت ابتسامةً واضحة بدلاً من ذلك. وقد بدأت تتحدّث لغتَها الأم (المالايالامية)  وهي في الشهر السادس من عمرها، وهو العمر الذي مشَت فيه أيضاً.

وحين وصلت إلى سنّ البلوغ أظهرت الكثيرَ من المعجزات، مثل طرد كوبرا (حيّة خبيثة) أرعبت القرية، من خلال تقبِيلِها لهذه الحيّة.

يجب أن نفهم أنّ الخَلق والخالقَ واحدٌ وليسا اثنين، وأن نعي أنّ جوانب الدين جاءت تلبيةً لاحتياجات الزمن

ومن سنّ الخامسة بدأت تُظهِر ميولَها الصوفية والتعبّدية التي لم يكن والداها يفهمانها: كانت على سبيل المثال، تسرق منهما الزبدة والحليب وتوزّعهما على الفقراء، كما كان كريشنا يفعل في الأساطير الهندوسية. ونتیجة لذلك عاقبها والداها بأشدّ المعاملات، فأجبراها على القيام بأعمالٍ شاقة في المنزل، وكانا يضربانها في بعض الأحیان. وقد انقطعت عن المدرسة في سن العاشرة لتصبح خادمةً عند الجيران.

ماتا أمريتانانداماي شخصيةٌ روحيّة معاصرة في الهند ومؤسِّسة المنظمة غير الحكومية "احتضان العالم" لأغراض إنسانية وإيكولوجية

النشوة الروحية الأولى

ولمّا بلغت الثالثةَ عشرة من عمرها تلقّت نشوتَها الروحية الأولى (السامادي). وفي عام 1975، وكان عمرها 22 عاماً، حصلت على التحرر (الموكشا) (أو النيرفانا Niranan) بعد فترة مكثّفة من التماثل مع كريشنا.

وأخيراً، وفي أعقاب مشاكل مختلفة مع عائلتها، اضطرت إلى مغادرة منزل الأسرة لتعيش بلا مأوى وعمرها 22 عاماً: ووفقاً للأسطورة، كانت الحيواناتُ ترافقها وتُخلِص لها وتؤمِّن لها طعامها.

ما من قدّيس أو نبيّ قال إنّ الحب والتسامح ينبغي أن نُظهِرهما فقط للناس الذين يقاسموننا نفس الإيمان

تقسم آمَا وقتها بين أشرامَها Ashram (أي صومعتها) في الهند وبين الجولات التي تقوم بها كل عام إلى الولايات المتحدة وأوروبا واليابان وعبر الهند. حيث تلتقي تلاميذَها، وكذلك الفضوليين الذين يأتون لتعلّم تجربة الدارشان. كما توجد اليوم مجتمعاتٌ حول رسالتها في جميع أنحاء العالم.

في آخر رسالة منها إلى العالم تقول آمَا:

"العالمُ أمامنا اليوم يرتجف عنفاً وغضباً وخِلافاً. فحيثما نظرنا سنرى الخوفَ والتوتر والقلق. فهذه المجموعة تشتبِه في تلك، وتلك تشتبِه في هذه. أي إنّ هناك شعوراً دائماً بالقلق والمنافسة والعِداء.

"في قلبِ هذه المشكلة يكمن تصوّرنا المستمر لـ "الغَيرية" (ما يخصّ الآخر في مقابل الأنا). والحال أنّ هذه الرؤية المعيبة ما انفكت تتفاقم وتتعاظم إلى حدّ اختراق الحدود الوطنية، مما أفسد رؤيتنا حتى لمواطنينا - بل وأحياناً لأفرادِ أسرتنا.

إنكار تنوع العالم

من غير المجدي، بل ومن العبث أن نُنكر تنوّع العالم – فالتنوعُ طبيعةُ العالَم ذاتها. فلكل أمّة، ولكل دينٍ، ولكل فئةٍ اجتماعية ثقافتُها ومنظورُها ومصالحُها. فإذا كان هذا التنوّع يمكن أن يخلق في بعض الأحيان عقباتٍ أمام السلام والوئام، لكنْ لو تعمّقنا وتبنّينا القيمَ الإنسانية الأكثر نبلاً في حياتنا، لرأينا أنّ جمال العالم ذاته يكمن في هذا التنوّع - الديني والثقافي - تحديداً. فهذا التنوّع هو الذي يجلب الثروةَ والجمال إلى الحياة. أليس صحيحاً أنّ باقةً تتكوّن من عدّة أنواعٍ من الزهور هي  أكثر جمالاً من باقةٍ قوامها صِنفٌ واحدٌ فقطً؟

في رحلاتنا عبر العالم كثيراً ما نلتقي بأشخاصٍ من جميع الأديان، وجميع الجنسيات وجميع مناحي الحياة. في بعض الأحيان يقول لنا الناس إنّ أزواجهم أو زوجاتهم أو أطفالهم قُتِلوا في مواجهة دينية. في مثل هذه اللحظات، نشعر بالصدمة. فالصراعات كهذه تحدث لأنّ الناس لا يذهبون مباشرة إلى قلب دينِهم وجوهره.

إنّ المُعلّمين الروحيين الكبار الذين قامت على عواتقهم حياةُ وتعاليم الأديان المختلفة كانوا يمارسون أنبل المثل العليا. لكنْ لسوء الحظ، ففي كثير من الأحيان أتباعُهم لم يصلوا إلى مستوياتهم. إنّ جوهر جميع الأديان هو الحبّ والرحمة والاعتراف بالربّ الكامن - أيّاً كان الاسم الذي نُسمّي به هذا الخالق - الذي يشكل ركيزة هذا العالم والوجود البشري معاً. مأساةُ اليوم أنّ الناس صاروا أكثر تركيزاً على التقاليد الخارجية، التي تتنوّع من دينٍ إلى دين ومن معتقَدٍ إلى آخر.. فهم ينسون جوهر الدين. وهذا هو السبب في أنّ هذه الأديان، التي كانت تهدف أصلاً إلى تعزيز السلام والشعور بالوحدة، أصبحت أدواتٍ للحروب والصراعات.

من غير المجدي، بل ومن العبث أن نُنكر تنوّع العالم، فالتنوعُ طبيعةُ العالَم ذاتها

طريق السلام العالمي

لو كلُّ واحد منا التزم بالمبادئ الأساسية لجوهر دينه هو، من دون انشغاله المفرط بجوانبِه الخارجية لأمكن للدين أنْ يصبح طريقاً للسلام العالمي. هذا لا يعني إقصاء السبل والتخصصات والفروع والقواعد التي يحملها كل دين وتقاليده. فهي في الواقع، تَحمِل دلالاتها الخاصة، وهي ضرورية لتنميتنا الروحية. أنماطُ الزهور المختلفة هي التي تجلب الروعة والجمال إلى الباقة. ولكنْ يجب ألا ننسى أنّ هذه العادات المختلفة ليست سوى وسائل وأدوات للوصول إلى هدف الدين، وليس إلى الهدف نفسه.

إذا أشار شخصٌ إلى فاكهةٍ على شجرة، نظرنا إلى رأسٍ إصبعه أوّلا، ثم فيما وراء أصبعه، اللهم إلا إذا نظرنا فيما وراء حدود الأصبع، فعندئذ لن نرى الفاكهة. اليوم، جميعُ الناس من جميع الأديان يفشلون في رؤية وقطف ثمار الدِّين، لأنّهم أصبحوا مُلتصقين متشبّثين جداً – بل مهووسين - بالأصابع.

في أجواءِ عصرنا الحالي المضطربة يجب أنْ نبحث عن خيطِ المحبّة الشمولية الذي نُسج منه الكونُ كلُّه

يتعيّن على جميع الزعماء الدينيّين أن يؤكّدوا على جوهر دينهم، وأنْ يحثّوا أتباعِهم على ممارسة المُثل العليا التي تنطوي عليها ديانتهم. سيساعد ذلك على حلّ النزاعات والصراعات. ويجب أن نعي ونذكر أنّ الدينَ للإنسانية - وليس الإنسانية للدين. وبالإضافة إلى ذلك، يجب أن نعي أنّ بعض جوانب الدين جاءت تلبيةً لاحتياجات الزمن الذي وُلدت فيه. وعند الضرورة، ينبغي أن نكون على استعداد لإعادة النظر في هذه الممارسات، وإجراء التغييرات المطلوبة، وفقاً لمتطلبات العصر الحالي. فما من قدّيس أو نبيّ قال يوماً إنّ الحبّ والتسامح ينبغي أن لا نُظهِرهما  إلا للناس الذين يقاسموننا نفس الإيمان. سيكون ذلك كالقول، "لا تتنفس إلا عندما تكون مع عائلتك وأصدقائك، وليس أمام أعدائك".

لكن هذا لا يعني أنه لا يمكننا أن نحتفظ بحبٍّ خاص لِديننا أو أمّتنا أو عائلتنا، بل يعني أنه علينا ألا ننسى أبداً الوحدة الملازمة المتأصلة في قلب كلّ تنوّع بشري. لأنه عندما نفقد هذه الوحدة تنشأ المشاكل وتتفاقم. فعندما نبدأ في القول: "ديننا هو الحق، ودينُك كاذب"، عندئذ ينفجر الخلاف، وكأنك تقول: "أمُّنا قدّيسة، وأمّك حثالة".

في آخر رسالة منها إلى العالم تقول آمَا: العالمُ أمامنا اليوم يرتجف عنفاً وغضباً وخِلافاً فحيثما نظرنا سنرى الخوفَ والتوتر والقلق

الخَلق والخالق واحدٌ وليسا اثنين

يجب أن نسعى في أن نفهم أنّ الخَلق والخالق واحدٌ وليسا اثنين. فكما هو الذهب موجودٌ في جميع المجوهرات الذهبية فإنّ الخالقَ يُشبِع كلَّ هذا الخلق. فإذا استطعنا أن نُغذي ونزرع مثل هذا الفهم فلن نغفل ولن نفقد أبداً وِحدتنا الملازمة المتأصلة التي لا تنفك منا جميعاً. وتماماً كما نعلم أنّ أيدِينا وسيقانِنا وعيونِنا وأنوفِنا وما إلى ذلك، هي أجزاءٌ مختلفة من جسمنا الفريد، يمكننا أيضاً أن نعترف بجميع الأمم والأديان والثقافات، باعتبارها مظاهر مختلفة لألوهيةٍ كليّةِ الوجود.

صَدق مَن قال: الفِكرُ مثلُ المقص، وظيفتُه القطعُ والتقسيم والتجزئة، أمّا القلبُ فهو مثلُ الإبرة، تجمع كلّ الأجزاء المنفصلة في جزءٍ واحدٍ متكامل. لكن فتماماً مثلما نقطع نسيجاً إلى أشكال ثم نجمعها لنجعل منها فستاناً، فإنّ الفكر والقلب ضروريان. ومع ذلك، ففي أجواءِ عصرنا الحالي المضطربة يجب أنْ نركّز أكثر على البحث عن خيطِ المحبة الشمولية الذي نُسج منه الكونُ كله.

مقياسُ أي ثقافةٍ نبيلة ومعيارُها هو تسامُحُها وانفتاحها لاستيعاب المجموعات المختلفة. فمن هذا المنظور فقط يمكننا أن نواجه مشاكل اليوم. فلنتركْ إخفاقات الماضي. يجب أن نبدأ عصرَ الوحدة القائمة على الحبّ والتفاهم والتبجيل إزاء المعتقدات الدينية التي يحملها كل فرد. وعلى جميع الجماعات الدينية أن تكون مستعدة للاستجابة لهذه الحاجة الملحّة في عصرنا المضطرب هذا.

إذا وضعنا الربَّ فوق كل اعتبار فإنّ بقيّةَ وُجودنا سوف يَنتظم من تلقاء نفسه. وإنْ كان الله جزءاً من حياتنا فسيتبعُه العالمُ لا محالة. ولكنْ، إذا وضعنا العالمَ أوّلاً، فلن يتبعه الله؛ أي أنّ الله في هذه الحالة لن يحتضِننا.

كلُّ كائنٍ بشري، حتى لو كان يُظهر القسوة والأنانية، فهو يملك القدرةَ على الصحوة واليقظة.  فهذه المَلَكَةُ كامنةٌ في أعماق كلّ واحد. هناك نبيٌّ في قلبِ كل واحد منّا. نور الله يمكن أن ينبثق فيكم في أيّ لحظة، فهو ينتظر الفرصةَ المواتية. المعلّمون الكبار يرون هذا النورَ الخفيَّ الذي ينتظر لحظة انبثاقه، بعد أنْ يُكسِر جدران الإيجو (الأنا المتضخمة).

 


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية