استراتيجية الهيمنة ودوائر الخوف: كيف صنع الإخوان إمبراطورية الظل في أوروبا؟

استراتيجية الهيمنة ودوائر الخوف: كيف صنع الإخوان إمبراطورية الظل في أوروبا؟


15/11/2020

يمكن القول إنّ الظروف العالمية والإقليمية، مهدت الطريق لوضع ضوابط استراتيجية؛ لمجابهة التطرف والعنف الذي يستمد طاقته من تنظيمات الإسلام السياسي، لاسيما المنتشرة في أوروبا، والتي بدأت بدورها في تهديد القيم المدنية والحقوقية والدستورية، بعد أن تمكنت من توطين أعضائها، ونشر أدبياتها من خلال المراكز الثقافية والدعوية، ما سمح لهذه الجماعات بالتمدّد الديموغرافي غير المحدود، في المجتمعات الأوروبية وعواصمها المختلفة.

تشير وثائق عديدة إلى حجم الدعم الهائل الذي حظي بها الإخوان وتيارات الإسلام السياسي في الغرب

مع فترة حكم الرئيس الأمريكي، دوايت أيزنهاور، في منتصف خمسينيات القرن الماضي، تم اللجوء إلى استخدام الدين كأحد محركات الصراع، الذي يمكن توظيفه في مناطق النزاع بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، لكبح نفوذ التيارات القومية والشيوعية، وعدم السماح بوصولها إلى منطقة الخليج، وكانت جماعة الإخوان المسلمين بمثابة حجر الأساس في هذا البناء الهائل، الذي سيتمدد عبر عقود قادمة، خاصّة في أوروبا، التي وجدت فيها تلك التنظيمات ملاذاتها الآمنة. 

الإسلام السياسي بين التوظيف والاستيعاب

تشير وثائق عديدة إلى حجم الدعم الهائل، الذي حظي بها الإخوان وتيارات الإسلام السياسي في الغرب، ما أسهم في تكوين العديد من الجمعيات الدينية والدعوية، مستفيدة من هامش الحرية الكبير، وسهولة إنشاء المراكز والجمعيات من الناحية القانونية، في ظل استيعاب المجال العام لكل الأصوات والتوجهات، فسيطرت قيادات الإخوان؛ ومنهم عصام الحداد، وإبراهيم منير، على نحو ثلاث عشرة منظمة وجمعية دعوية في بريطانيا، كما ترأّس القيادي الإخواني إبراهيم الزيات، منظمة "جيد الإسلامية" بألمانيا، وتأسّس في لندن منتدى الشباب المسلم، والذي بات الأكثر تأثيراً على البرلمان الأوروبي، باعتباره يمثل الصوت الإسلامي. 

يرى المحلل السياسي التونسي، الدكتور منير الشرفي أنّ انتشار الفكر الإسلامي المُتشدد، في أوروبا خصوصاً، لم يأت عن طريق الصدفة، وإنما نتيجة برنامج مُسطّر من قبل بعض الدول بتمويلات ضخمة، ومن قبل الجماعات الإخوانية المُتطرّفة بمختلف أجنحتها، ويخصّ بالذكر منها؛ الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الذي تأسّس بتشجيع معنوي من طرف أسامة بن لادن، ومادي من طرف دولة قطر.

منير الشرفي: انتشار الفكر الإسلامي المُتشدد في أوروبا لم يأت عن طريق الصدفة بل بدعم ضخم منها

هذا الفكر، في رأي الشرفي، يعتمد بالأساس على العنف، الذي يصل إلى حد القتل والذبح، بحجة الدفاع عن الإسلام أو عن الرسول محمد، صلى الله عليه وسلم، مضيفاً في حديثه لـــ"حفريات" أنّ "الإرهابيين الذين يقومون بهذه الأعمال ليسوا سوى آلات طيّعة تمّ غسل عقولهم بإحكام، ليُنفّذوا أوامر المُخطّطين، بالفكر والمال والعتاد، دون أن يكونوا، في كثير من الأحيان، واعين بخطورة ما هم قادمون عليه".

اقرأ أيضاً: "بايدن أوروبا".. وأردوغان

ويؤكد رئيس المرصد التونسي للدفاع عن مدنية الدولة، انّه "سواء تعلّق الأمر بالمُخطّطين أو بالمُنفّذين، فإنّ جميعهم لا يُؤمنون بالديمقراطية، ولا بحرية الضمير والتعبير والمُعتقد، ولا بالمبادئ الكونية لحقوق الإنسان، ممّا يجعلهم في الدول المُتحضّرة خارج التاريخ والجغرافيا"، موضحاً: "فهم يجهلون أنّ الدولة الفرنسية مثلاً، التي شهدت مُؤخّراً عمليّتين إرهابيتين من أشنع ما يكون، هي دولة لائكية (علمانية) قانوناً، وأنّ حقوق الإنسان مضمونة فيها منذ أكثر من قرن من الزمان، بما في ذلك الحق في الإبداع، كما يجهلون أنّ الخروج عن قوانينها يُعتبر جريمة، ويظنون أنّه من حقهم فرض استعلائية تأويلاتهم للدين الإسلامي على تلك القوانين".

الشرفي: العمليات الإرهابية التي يدّعي مُقترفوها الدفاع عن الإسلام وعن المسلمين تأتي بالنتيجة العكسية

ولا شكّ أنّ خطاب العنف والكراهية، بالقول والفعل، في رأي الشرفي، يُؤدّي حتماً إلى كراهية الإسلام والمسلمين في عيون الغرب، أي أنّ هذه العمليات الإرهابية التي يدّعي مُقترفوها الدفاع عن الإسلام وعن المسلمين، تأتي بالنتيجة العكسية.

الخطر الإسلاموي وتكلفة المواجهة الشاملة

من ناحية أخرى، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ عديد الدول الغربية، وخاصّة فرنسا وبريطانيا، أساءت التقدير فيما يتعلّق بخطورة الفكر الإخواني المُتطرّف، عندما احتضنت العديد من قادته المنبوذين في دولهم، وسمحت لهم بالنشاط طيلة عشرات السنين، باسم حقوق الإنسان وحرية التعبير. ويبدو أنّها اليوم تدفع ثمن الحرية المُطلقة التي منحتها إياهم، دون قيد ولا شرط، والتي استغلّها دعاة الفكر المؤدلج والمُتشدّد في تجنيد مُريديهم بسهولة كبيرة، ما جعل اليوم تلك الدول تجد صعوبة في الحدّ من نشاطهم، بعدما استيقظت من سباتها الطويل.

وتبدو الإجراءات التي اتخذتها فرنسا، رد فعل طبيعياً للضربات المتقطعة التي تشهدها من حين إلى آخر، لكنّها ربما جاءت متأخرة، ونفس الأمر بالنسبة للنمسا، التي تحولت إلى ملاذ آمن لجماعة الإخوان ومن على شاكلتها، لكن تظل العقبات القانونية والإدارية في بلد مثل بريطانيا، مانعاً أمّام محاولات تفكيك بنية هذه الجماعات، ما يلزم معه اتخاذ إجراءات استثنائية لاستعادة السيطرة، وتأمين المجال العام.

دول غربية أساءت تقدير خطورة الفكر الإخواني عندما احتضنت العديد من قادته المنبوذين في دولهم

لكن السؤال الذي يطرح نفسه، يدور حول الكيفية التي تمكنت بها تلك الجماعات من التمدد والتمفصل في الواقع الاجتماعي والسياسي الأوروبي، ومدى إمكانية تفكيك إمبراطورية الظل الإخوانية في عديد الدول الأوروبية، وخاصّة فرنسا؟

يفسر رئيس وحدة الدراسات الأوروبية بالمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، الدكتور توفيق أكليمندوس، الطريقة التي تعمل بها الجماعات الإسلامية وعلى رأسها الإخوان، للهيمنة على المجتمعات الأوروبية، "من خلال استهداف البلدات والضواحي الفقيرة التي يقطنها المسلمون، حيث يبدأ المخطط بالسيطرة على المسجد، أو بناء مسجد، وغالباً ما يكون بدون تراخيص، ويديره أئمة أتراك، يعقب ذلك شراء عدد من المحلات لممارسة أنشطة تجارية، وتشغيل مسلمي المنطقة المستهدفة، وتدريجياً يبدأ الإخوان في فرض ثقافتهم وأيديولوجيتهم، وقد هيمنوا على المسلمين اقتصادياً وفكرياً؛ وذلك بفرض الحجاب ورفع الأذان والقرآن بصوت عال طيلة اليوم، ثم تبدأ المرحلة التالية، وهي توظيف ذلك سياسياً، باستغلال الظروف الانتخابية، عبر التفاوض مع عمدة البلدة، للاستئثار بأموال التشغيل والدعم الحكومي، مقابل الدعم الانتخابي".

اقرأ أيضاً: جزاء احتضان الإخوان.. هل أدركت أوروبا حجم خطئها أخيراً؟

ويلفت أكليمندوس، في حديثه لـ"حفريات"، إلى مساومة أخرى تقوم بها الجماعات الإسلامية، "وهي الاستيطان في الأحياء المزعجة من الناحية الأمنية، وتقديم خدمات للجهات المحلية تتضمن الحفاظ على الأمن وتهدئة الأوضاع، في مقابل الهيمنة على الحي، وهكذا نجحت تلك الجماعات في فرض قوانينها الخاصّة على المناطق الفقيرة التي يقطنها المهاجرون المسلمون، وأسلمة سلوكاتهم، بمنع الاختلاط وفرض الحجاب وحظر الخمور، وغالباً ما تجري مناوشات مع المسيحيين واليهود في هذه البؤر المنعزلة".

أكليمندوس: جماعات الإسلام السياسي نجحت بخطابها العنصري والتحريضي بخلق بيئة خصبة للعنف وقطيعة للمسلمين مع مجتمعاتهم

ويرى أكليمندوس كذلك أنّ جماعات الإسلام السياسي، نجحت من خلال خطابها العنصري والتحريضي، في خلق بيئة خصبة للعنف، وقطيعة بين المسلمين وغيرهم، "ففي حادثة مقتل المدرس الفرنسي، كانت هناك ممارسة واسعة للخطاب التحريضي من قبل الإخوان المسلمين، فهذه الجماعة لا تفوت أيّ فرصة لممارسة خطابها والترويج له، ما أحدث قطيعة بين نموذجين للتفكير، أحدهما، وهو الذي يغلب على الفرنسيين، يقدس الحرية الفردية، ولو على حساب ثوابت الجماعة، بينما نجح الإخوان في نشر خطاب معاكس، يحتقر حرية الفرد، ويضع أمامها عدة عراقيل، وذلك في مسعاهم الدائم للسيطرة على المسلمين باسم المقدس، وخلق دلة موازية، كمرحلة أولى للتمكين".

ويطرح الباحث المصري نموذج احتكار التعليم، كمدخل للسيطرة على العقول، "حيث يمارس الخطاب الإخواني نوعاً من التحريض ضد المناهج الفرنسية، في المدارس الحكومية والخاصّة، مع الضغط على أولياء الأمور لنقل أبنائهم إلى المدارس الإسلامية التابعة للتنظيم، والتي تتبنى مناهج متطرفة ومحرضة على ممارسة الكراهية والعنف، وقيم الانفصال عن المجتمع، وازدراء قيم الجمهورية الفرنسية، من خلال تنمية الخوف من الآخر، وصناعة الغضب تجاه كل ما هو مخالف لتصور الجماعة عن الإسلام".

اقرأ أيضاً: منابع الإرهاب ـ هكذا يقع الشباب في أوروبا في براثن التطرف الإسلامي

ويرى أكليمندوس أنّ "الرئيس ماكرون، حسم بالفعل أمره تجاه المواجهة الشاملة، فهو يحظى على الأقل بتأييد ثلثي الشعب الفرنسي، لكن المواجهة تبدو صعبة، في ظل عدم وجود الموارد الكافية، وعدم وجود اصطفاف كامل من قبل النخبتين السياسية والجامعية، كما أنّ فشل الدولة في تنمية البؤر الفقيرة، ودمج سكان الأحياء المغلقة إثنيّاً، حيث توجد أحياء للمغاربة والأرمن والأتراك، وغير ذلك، يعيق تفعيل خطاب الاندماج تحت لواء القيم الجمهورية، وهو التحدي الذي يخوضه الرئيس الفرنسي".


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية