أدميرالات البحرية التركية يتمردون: كيف نام الجنرال أردوغان ليلة البيان؟

أدميرالات البحرية التركية يتمردون: كيف نام الجنرال أردوغان ليلة البيان؟


08/04/2021

كان أردوغان محقّاً حين وصف بيان أدميرالات البحرية المتقاعدين، بأنّه "بيان مريب صدر في منتصف الليل"، فلا يبدو أنّ أحداً من المحللين لديه رؤية واضحة عن خطوة الأدميرالات، وتسود روايتان؛ الأولى رؤية الرئاسة والحكومة ومؤيدي حزب العدالة والتنمية، التي تصف الخطوة بالدعوة لانقلاب، والثانية تشكّك في البيان، وتراه حدثاً غريباً، يخدم أردوغان في المقام الأول.

انخراط تركيا المتزايد في مواجهة روسيا، كذراع للناتو، يتطلب إجراء عمليات تطهير داخل الجيش، لتحقيق استقرار يصب في مصلحة التعاون مع الحلف

وتوجد رواية ثالثة، تتبناها قلة من المحللين الأتراك، تفهم البيان في إطار صراعات أجنحة الدولة العميقة التركية، التي تكوّنت منذ تأسيس الجمهورية، بل وربما منذ أواخر العهد العثماني، وأهمها الجناح الأطلسي، ثم الجناح الأوراسي، والجناح الإسلامي الأحدث منهما.

ولكلّ جناح مراكز قوى داخل مؤسسات الدولة المهمة؛ الجيش والاستخبارات والأمن والقضاء والإعلام والاقتصاد والسياسة، وارتباطات بمحور خارجي، وبينهم صراعات وتحالفات، لا تظهر للعلن إلا نادراً، ولذلك تغيب عن تحليلات معظم المتابعين للشأن التركي.

104 أدميرال

مساء السبت الماضي، في الثالث من الشهر الجاري، نُشر بيان مُوجه إلى الحكومة التركية من 104 من كبار ضباط البحرية المتقاعدين، يدعوها إلى الالتزام باتفاقية مونترو لعام 1936، التي استبدلت اتفاقية لوزان في هذا الشأن، بشأن إدارة المضائق التركية، التي تربط البحر الأسود بالبحر المتوسط، ويطالبها بالتراجع عن مشروع قناة إسطنبول، الذي أعلنت الحكومة عن عزمها تنفيذه الشهر الماضي، ويدعو الجيش إلى الحفاظ على الأسس العلمانية الكمالية للدولة، ويستنكر مظاهر التدين في القوات البحرية، ولم تذكر وسائل الإعلام كيفية وصول البيان إلى العلن، أو كيفية توجيهه إلى الحكومة.

قادة الأفرع الرئيسية في الجيش التركي

وفور ذيوع البيان، انطلقت التصريحات الرسمية المنددة بالموقعين، وتبارت مؤسسة الرئاسة ووزراء الحكومة ورئيس البرلمان وغيرهم من المحسوبين على التحالف الحاكم، في التنديد بالضباط، وتخوينهم، وعلى رأسهم الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، ووزير الدفاع، والداخلية، ورئيس حزب الحركة القومية، دولت بهجلي، الذي دعا إلى؛ تجريد الأدميرالات من رتبهم ومعاشات التقاعد.

اقرأ أيضاً: تركيا: 22 حكماً جديداً بالسجن مدى الحياة بحق عسكريين سابقين.. تفاصيل

وأعلن المدعي العام في أنقرة القبض على 10 من الأدميرالات، وتوجيه استدعاء إلى أربعة آخرين لتسليم أنفسهم خلال ثلاثة أيام، مشيراً إلى مراعاة أنّهم طاعنين في السن، وقامت الحكومة بتجريد الـ 14 أدميرالاً، وصفتهم بالعقل المدبّر وراء البيان، من سكنهم الحكومي، والحراسات الخاصة.

ومن جانب آخر؛ استنكرت غالبية قوى المعارضة بيان الضباط، وطالبوا أردوغان بعدم تحوّيله إلى فرصة أخرى لتحقيق مزيد من الهيمنة على مؤسسات الدولة، وتقويض الديمقراطية.

أجنحة الدولة العميقة

في كتابه، "قصة تركيا بين أردوغان الأول والثاني"، يستعرض المؤلف التركي، ياوز أجار، قصة الدولة العميقة في تركيا، والمحطات التي كُشفت فيها بعض أوجه هذه الدولة، من خلال حوادث غير مقصودة، وقراءة التاريخ التركي الحديث من زاوية الفاعلين وتوجهاتهم.

الأب الروحي لحلم الوطن الأزرق، الأدميرال، جيم جوردنيز، أحد الموقّعين على البيان

ويوضح الكاتب؛ أنّ هناك ثلاثة أجنحة للدولة العميقة؛ الأول والأقدم، هو الجناح الأطلسي، الذي تشكّل منذ انضمام تركيا لحلف شمال الأطلسي (الناتو) في العام 1952، وتأسس هذا الجناح في إطار خطط مواجهة الخطر الشيوعي، خاصة أنّ تركيا كانت معقلاً للشيوعيين، وأشهر كيان معبر عن هذا الجناح، هو "مجموعة التعبئة التكتيكية"، ولهذا الجناح تمثّيل سياسي، متمثّل في القوميين المحافظين، ومنهم حزب الحركة القومية، الذي يترأسه حليف أردوغان، دولت بهجلي، ولها موالين داخل مؤسسات الدولة، وغطاء إعلامي واسع، ولم تكن الحكومة التركية على علم بهم، حتى عهد رئيس الوزراء، بولند أجاويد (1974 - 1979)، وظهرت إلى العلن في قضية تحقيقات تنظيم "أرجنكون"، عام 2007.

أردوغان مع رئيس حزب الحركة القومية، دولت بهجلي، المحسوب على الأطلسيين

والجناح الثاني، هو الأوراسي، الذي تشكّل في ثمانينات القرن الماضي، عندما بدأت الولايات المتحدة في التخلي عن دعم الجناح الأطلسي، فتحوّل جزء منهم إلى دعم المحور الروسي - الصيني، ولهؤلاء انتشار واسع مثل الأطلسيين، ويرفعون الأيديولوجيا القومية العلمانية اليسارية، ومن أشهر زعمائهم، رئيس حزب الوطن، دوغو برينجك، وكُشف الستار عنهم في إطار تحقيقات "تنظيم أرجنكون". وفي خطوة ذكية، دان برينجك بيان الأدميرالات، واتّهم الولايات المتحدة بالوقوف وراءه.

الباحث التركي ياوز أجار لـ "حفريات": أردوغان يريد تقديم الأوراسيين كقربان للمصالحة مع واشنطن وبروكسل، وحين يتخلص منهم، سينقلب على الجناح الأطلسي

ويعدّ الإسلاميّون الجناح الثالث، الذي تشكّل في إطار التوجه الأمريكي لإعادة تهيئة منطقة الشرق الأوسط، بتصعيد الإسلام السياسي، ويدخل في هذا الجناح أربكان، ثم أردوغان، وعدنان فيردي، وغيرهم.

وبين هذه الأجنحة صراعات متعددة، فكلّ جناح يقف وراء حركة التصفيات للآخر، ومع تولي أردوغان السلطة، عمل على توظيف هذا الصراع للتخلص منهما، وهو ما نجح فيه بشكل كبير، دون أنّ يقضي عليهما.

من وراء بيان الأدميرالات؟

قبل صدور بيان الأدميرالات، أصدر 126 سفيراً سابقاً، بياناً بشأن قناة إسطنبول، واتفاقية مونترو، ثم تبعهم بيان الأدميرالات، بحسب وكالة أنباء "Bianet" التركية، ولمحاولة فهم الجهة التي تقف وراء بياني السفراء والأدميرالات، يتطلب ذلك نقاش المستفيد والمتضرر من القوى الدولية من قناة إسطنبول.

رئيس حزب الوطن، دوغو برينجك، المحسوب على الأوراسيين

وبحسب اتفاقية مونترو؛ استعادت تركيا السيادة على مضائق الدردنيل والبوسفور، بعد أن كانا خاضعين لقوانين دولية لتنظيم الملاحة، تعود إلى الإرث العثماني، وخلال العهد العثماني كان الصراع الدولي على المضائق التركية من أهم الأحداث السياسية للعالم، بين روسيا وبريطانيا بشكل خاص، حيث سعت الأخيرة إلى منع روسيا من حرية الوصول إلى المياه الدافئة، حفاظاً على تفوقها البحري ومستعمراتها في الهند ومصر وغيرهما، بينما كان الوصول إلى المياه الدافئة هدفاً للحروب الطويلة بين روسيا القيصرية والعثمانيين، ونجح القياصرة في فرض معاهدات تضمنت حرية الملاحة لهم لعشرات السنين.

اقرأ أيضاً: هل يخرج أردوغان من أزماته عبر صياغة دستور جديد لتركيا؟

وجاء توقيع معاهدة مونترو كتسوية بين بريطانيا وروسيا وتركيا ودول أخرى لأزمة المضائق، ونصّت على؛ حرية الملاحة غير الحربية لدول العالم؛ إذ تعدّ المضائق البوابة الوحيدة بين البحرين؛ الأسود والمتوسط، والتزام الدول المشاطئة بعدم إدخال السفن الحربية العملاقة للمنطقة، وعدم السماح بدخول السفن الحربية لغير دول البحر الأسود إلا لثلاثة أسابيع فقط، ومنح تركيا حقّ منع دخول سفن الدول التي تكون في حالة حرب معها، سواء التجارية أو العسكرية، وتتولى تركيا الإشراف على تنظيم حركة الملاحة.

اقرأ أيضاً: تركيا والاتحاد الأوروبي... تاريخ من العلاقات المتوترة

وطالبت تركيا مراراً بتعديلات على معاهدة مونترو، نظراً لما تتحمله من أعباء مالية وبيئية نتيجة الحركة الملاحية في المضائق، وحال أنشأت تركيا قناة إسطنبول، فلن تخضع لمعاهدة مونترو، ما يمنحها الحقّ في فرض رسوم على المرور، وحرية إدخال السفن الحربية العملاقة للبحر الأسود، وهو الأمر الذي يهدّد الأمن القومي الروسي، خصوصاً في ظلّ صراعها مع الناتو حول شبه جزيرة القرم وأوكرانيا.

اقرأ أيضاً: هكذا أصبحت تركيا سجناً كبيراً

وبناءً على ذلك؛ من المفترض أنّ يكون الجناح الأوراسي وراء بياني؛ السفراء والأدميرالات، وفي حديثه لـ "حفريات"، يقول الباحث التركي، ياوز أجار، إنّ "المتابعين للمشهد التركي يعلمون أنّ هؤلاء الضباط ينتمون إلى إحدى المجموعات الأوراسية الموالية لروسيا والصين، وكان أردوغان تحالف مع الأوراسيين من أجل التخلص من فضائح الفساد والرشوة في 2013، وحركة الخدمة، وكذلك تحالف مع الأطلسيين، عام 2015، للتخلص من الأكراد، وهؤلاء المجموعات الثلاثة (أردوغان والأوراسيون والأطلسيون القدماء) تواطئوا على انقلاب مفبرك للتخلص من معارضيهم في الجهاز البيروقراطي والجيش خاصة".

خاضت الدولة العثمانية وروسيا القيصرية صراعات تاريخية، في قلبها مضيقا الدردنيل والبوسفور

ويرى أجار؛ أنّ الأطلسيين والأوراسيين ظنا أنّ التحالف مع أردوغان مرحلي، لإضعاف خصومهم، ثم السيطرة عليه، لكنّ أردوغان أدار اللعبة أفضل منهما، وفي عام 2017 انقلب على الأوراسيين، واستبدلهم بكوادره الإسلامية.

ويدعم فرضية أجار، أنّ من بين المقبوض عليهم من الأدميرالات العشرة، جيم جوردنيز، الأب الروحي لمشروع الوطن الأزرق، الذي يقوم على فكرة توسيع السيادة البحرية التركية على حساب اليونان وقبرص، وهو طرح معادٍ للناتو والاتحاد الأوروبي، ويضع جوردنيز ضمن الجناح الأوراسي.

اقرأ أيضاً: تركيا تخترق آسيا الوسطى طمعاً بالطاقة والنفوذ

وحول وقوف الأوراسيين وراء بيان الأدميرالات، يذهب أجار إلى احتمالين؛ الأول أنّ "الأوراسيين أرادوا، كمحاولة أخيرة، استباق التصفية النهائية لأفرادهم في الجيش، في اجتماع مجلس الشورى العسكري القادم، حيث تقول مصادر مطلعة إنّ أردوغان سيقيل حوالي 1500 ضابط إلى التقاعد، معظمهم من الأوراسيين".

والاحتمال الثاني، يقول أجار إنّ "أردوغان اخترق الأوراسيين ونجح في تحريكهم ضدّه، ليمنحوه بأنفسهم الذريعة للتخلص منهم، بغطاء شعبي".

الناتو في مواجهة روسيا

ومن زاوية قراءة التوجهات الخارجية لأجنحة الدولة العميقة، يصبّ التخلص من الأوراسيين في صالح التقارب التركي مع واشنطن وبروكسل، اللتين تخططان لمواجهة أشدّ حزماً مع روسيا في القرم وأوكرانيا، وهو ما يتطلب اتفاقاً مع تركيا، اللاعب الأطلسي الأساسي في البحر الأسود.

وفي إطار ذلك؛ وصل التعاون العسكري والاقتصادي بين تركيا وأوكرانيا إلى مستوى غير مسبوق من ّالقوة، وتصدّر تركيا الطائرات المسيرة لأوكرانيا، التي تصنعها بمحرك أوكراني.

فرضت واشنطن عقوبات على تركيا على خلفية صفقة إس - 400

وأضاف الباحث ياوز أجار، لـ "حفريات": "أردوغان يريد تقديم الأوراسيين كقربان للمصالحة مع واشنطن وبروكسل، وحين يتخلص منهم، سينقلب على الجناح الأطلسي، ويحمله المسؤولية عن الصراع مع الأكراد، والمعارضة، وتردي حقوق الإنسان، كخطوة كبرى للرجوع للحضن الغربي"، ويشدد أجار على أنّ "أردوغان رجل متقلب، لن يتردد في الإطاحة بأيّ شخص لتحقيق مصالحه، التي تبدو متناقضة".

وفي السياق ذاته، علق الأمين العام للحزب الشيوعي التركي، كمال أوكويان، على بيان الأدميرالات، وقال في حوار مع موقع "SOL International" التركي؛ "الموقّعون على البيان بينهم شخصيات موالية وأخرى معارضة للناتو، ولا يعلم أحد كيف أعدوا البيان، لكنّ الأمر الأكيد أنّ الحكومة كانت مستعدة بشكل مسبق وجيد له".

اقرأ أيضاً: وتستمر تناقضات أردوغان... هكذا تستفز تركيا السوريين

وربط أوكويان البيان بسياسة الناتو الحازمة تجاه روسيا، وقال إنّ "انخراط تركيا المتزايد في مواجهة روسيا، كذراع للناتو، يتطلب إجراء عمليات تطهير داخل الجيش، لتحقيق استقرار يصبّ في مصلحة التعاون مع الحلف".

ويزيد من ضبابية كلّ شيء في تركيا، أنّ الأجنحة الثلاثة للدولة مخترقة من بعضها البعض، فمن الوارد أنّ يكون رجال أردوغان داخل الجناح الأوراسي سربوا معلومات دفعت قادة الجناح إلى الخروج ببيانهم، الذي وفر لأردوغان ذريعة للتخلص منهم، ليعيد ضبط بوصلته السياسية ناحية الناتو، بعد أزمته الأخيرة التي سببتها صفقة منظومة الدفاع الجوي الروسية "إس - 400"، والتنسيق الكبير مع الروس في سوريا وغيرها.

اقرأ أيضاً: العقدة الغوردية لسياسة تركيا الخارجية

وكان رئيس البرلمان، مصطفى شنطوب، قد ذكر أنّ من حقّ أردوغان الانسحاب من أية اتفاقيات دولية، حتى اتفاقية مونترو، وهو ما تسبب في موجة من الغضب داخل الجناح الأوراسي للدولة العميقة، ودفعهم إلى إصدار بيانهم.

وفي نهاية 2019، أعلن أردوغان مشروع قناة إسطنبول، وهي مجرى مائي موازٍ لمضيق البوسفور، على بعد 30 كيلومتراً منه في اتجاه الغرب. وتقدر التكلفة المبدئية للمشروع بحوالي 15 مليار دولار، وبحسب الحكومة؛ يهدف المشروع إلى تخفيف الازدحام في مضيق البوسفور، ويلقى المشروع معارضة شديدة من الأحزاب السياسية، لتوابعه المالية والبيئية والاجتماعية على مدينة إسطنبول.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية